المنشور

“التقرير الاستراتيجي” ومؤسسة حقوق الإنسان

لم أفاجأ شخصيا بأن يحظى “التقرير الاستراتيجي البحريني 2009” بكل ذلك الاهتمام المنقطع النظير وردود الفعل المختلفة من قبل وسائل الإعلام والصحافة المحلية والعربية فضلاً عن الأوساط والقوى والرموز السياسية، فقد سبق للتقرير الأول أن حظي باهتمام مماثل، وان كان التقرير الثاني الأخير ــ على ما يبدو ــ يفوق الأول في الاهتمام وردود الفعل الواسعة النطاق.
فحينما يتوخى معدو أي بحث أو تقرير استراتيجي قدراً معقولاً من المنهجية العلمية الموضوعية في إعدادهم للدراسة أو التقرير، فإنه لابد ان يكسب احترام وتقدير الجميع أو جلهم على الأقل، وبضمنهم حتى المعارضون في هذا الجانب أو ذلك الجانب من النتائج التي توصل إليها أو التوصيفات التي استعرضها.
على العكس من ذلك فيما لو اتسمت منهجية التقرير وخلاصة ما توصل إليه من نتائج بالأحكام المسبقة المتعسفة وبالتحيزات المطلقة الأقرب الى اللغة الدعائية الفجة الكاذبة المناقضة على نحو صارخ لما يموج به المشهد السياسي الداخلي من مظاهر وتحديات خطرة بعيدة كل البعد عما تعمد التقرير تزويقه لمجرد إرضاء الجهات الرسمية العليا المعنية في أي دولة كانت.
بهذا المعنى فإنه يسجل للمشرفين على التقرير الاستراتيجي البحريني والمساهمين في تحريره أنهم احترموا على الأقل وعي وعقل ليس النخبة السياسية التي لا يمكن استغباؤها فحسب، بل حتى المواطن البحريني العادي البسيط الذي يساء الى عقله أيما إساءة فيما لو عمد التقرير الى انتهاج لغة تبسيط وتسطيح اعراض ومظاهر القضايا الخطرة أو التعتيم عليها في حين يموج بها مسرح السياسة المحلية بكل تجلياتها اليومية وتعشي عيون عشرات الآلاف من الأجانب والمقيمين قبل ان تعشي عيون المواطنين المكتوين أصلاً بنيرانها.
وبهذا المعنى أيضا فإنه يسجل للتقرير أيضا أنه توخى المحافظة على رصيد سمعته العلمية عربيا ودوليا كمؤسسة بحثية علمية تتحلى بأبسط مقتضيات مبادئ وقواعد وأصول البحث العلمي بعيداً عن لغة التهريج والإسفاف الدعائية التي من شأنها ان تسيء الى أي مؤسسة أبحاث علمية تحترم نفسها أيما إساءة، وعلى العكس من ذلك فإن الالتزام ولو بحد أدنى من أدوات ومبادئ المنهجية العلمية إنما سيصب حتما في صالح ليس السمعة العلمية للمؤسسة التي أصدرت التقرير فحسب، بل الدولة التي تتبعها إداريا، وبخاصة على الصعيد الدولي، حيث سيعزز من مصداقية “نهجها الإصلاحي” أمام العالم.
وكما هو معروف فإن التقرير الاستراتيجي البحريني الذي أصدره مركز الدراسات والبحوث قبيل بضعة أيام من انتهاء العام المنصرم (2009م) نجح في وضع يده على 12 قضية تأثرت بها البيئة السياسية المحلية وشغلت الرأي العام المحلي خلال عامي 2008 ــ 2009، وهي على التوالي: قضية التلوث البيئي، قضية الجامعات الخاصة والتعليم العالي، قضية التضخم والغلاء، قضية حرية الصحافة، الأزمة المالية وأثرها في البحرين، القضايا الحقوقية، قضايا الفساد، البطالة، النشاط البرلماني، العمالة الوافدة وإلغاء الكفيل، قضية الحوار الوطني، قانون الأسرة.
التقرير الاستراتيجي عني بإفراد فصل مستقل، ألا هو الفصل الثاني، لتناول قضية محلية مهمة على درجة من الخطورة والحساسية ألا هي القضية الطائفية فيما خصّص الفصل الثالث لأنشطة الجمعيات السياسية والثقافية ودينامية المجتمع البحريني التي من تجلياتها، كما يشير التقرير، التظاهرات والمسيرات التي وصفها بشجاعة موضوعية تحسب له بأنها “أصبحت سمة الحياة السياسية في المجتمع البحريني”.
أما الفصول الأخرى، من الثالث حتى الفصل العاشر الأخير، فقد خصص معظمها للقضايا الخليجية والعربية والدولية التي تهم المملكة وتتأثر بها كعضو فاعل في بيئاتها الثلاث المنعوتة (الخليجية والعربية والدولية) ولعل أهم تلك الفصول ذات الصلة الجوهرية المترابطة والمتشابكة مباشرة بالقضايا الداخلية الآنفة الذكر “الفصل الثامن” المخصص لعرض ورسم المشهد الاقتصادي بكل تضاريسه المحلية، و”الفصل العاشر” الأخير الذي يرصد ما جاء في التقارير الدولية المتعلقة بأوضاع حقوق الإنسان في البحرين خلال عام 2009، وبضمنها المتخصصة، كتلك المتصلة بحرية الصحافة، والاتجار في البشر، ومؤشر السلام العالمي، ومؤشرات الحكم الصالح، والتمكين التجاري.. إلخ.
ومع ان التقرير قد يؤخذ عليه أنه يطغى عليه الأسلوب المنهجي الذي اتبعه معدوه ما يمكن نعته بـ “عرضحال” حذر لعرض وتشخيص أعراض ومظاهر الحالة البحرينية أكثر من عنايته بتحليلها بما يستشرف آفاق سيرورتها ومقاربة سبل الخروج من معضلاتها فإن الاعتراف بأي حالة وتشخيصها تشخيصا واقعيا وكذا تسمية الأمور بمسمياتها هو في حد ذاته يعد انجازا يمكن البناء عليه لتطوير منهجية التقارير المقبلة.
ولئن كانت ثمة جهة أو مؤسسة رسمية معنية بالاستفادة من منهجية تقرير البحرين الاستراتيجي، بصرف النظر عن نواقصها، التي ــ المنهجية ــ بفضل موضوعيتها نالت إعجاب أو احترام الجميع في داخل البحرين وخارجها فأحسب أن مؤسسة حقوق الإنسان “الوليدة” هي على رأس المؤسسات الرسمية المهمة المعنية بذلك في تقاريرها المقبلة المنتظرة ولا أظن بأنها ستكون أقل شجاعة في الموضوعية من التقرير الاستراتيجي وتقارير ديواني الرقابتين المالية والإدارية.

صحيفة اخبار الخليج
13 يناير 2010