المنشور

الرأسمالية والبداوة

الرأسمالية هي أعلى مراحل التطور الاجتماعي لحد الآن، والمرحلة البدوية مرحلة أولى في حياة الإنسان، وقد استطاعت الجزيرة العربية أن تحتفظ بالبداوة لقرونٍ طويلة، منعزلةٍ عن التحولات التي تجري في العالم، خاصة في المناطق الداخلية، والتي عادة تفيضُ على المدن والسواحل في هجرات لا تنقطع، مجددةً هياكلَها الاجتماعيةَ مرات للوراء ومرات للإمام حسب مستوى كل مرحلة، مبدلةً النسيجَ السكاني وحياة الناس الاقتصادية.
وفي قرون التطور الرأسمالي التجاري بين القرن السادس عشر وما تلاه، تناغمتْ الهجراتُ البدوية من دواخلِ الجزيرة العربية والتمددُ الغربي التجاري، الذي كان يسيلُ لعابهُ للموادِ الأوليةِ الثمينة خاصةً، ولم تعطهِ الجزيرةُ العربيةُ الكثيرَ من هذه المواد لكن اللؤلؤ كان مبتغاه وقتذاك، ويحددُ إنتاجَهُ وسيرَ بضائعهِ إلى مستعمرته الكبيرة في الجنوب.
كان تعلمُ البدوِ كبيراً من التجارة مع الهند، ونشأت الفئات التجارية على ضفاف الخليج، متوقفة لزمن طويل عند الرأسمالية التجارية، وتدفقاتها المالية والعقارية والزراعية، بسببِ ضعف قوى الإنتاج الداخلية، وهو أمرٌ سوف يستمر بشكلِ عاصف على الإنتاج الحرفي الشعبي، وتغدو المدنُ الصغيرة الضفافية محصورة بين قارة البدو الداخلية التي لم تترسمل بعد، وبين القوى الغربية التي تحدد التطور سواءً كان السياسي أم الإقتصادي، متدعمة من خلال بطء تطور الإنتاج السلعي الداخلي وتنامي التجارة الخارجية.
لكن ظلَ النسيج القرابي القبلي والتراث الثقافي المنتجين داخل هذا الواقع، هما حبلا السرة اللذان يشدانها نحو الأم الجزيرية الرابضة في البداوة، تنهضُ شيئاً فشيئاً للحداثة، تتعلمُ من السواحل والمدن النهضوية الصغيرة المتسارعة، وتقاربُهَا في إنتاجِ النفط وتتفوق عليها في تمددِ المدن وضخامتها والتي تندفع في فضاء الحضارة بسرعة كبيرة، بين حقولِ الألغامِ الإجتماعية والمواريثِ الداخلية المتجمدة منذ عصور.
الجزيرة في تحررها السياسي ظلتْ مشدودةً لخريطتِها السياسية السابقة المكونة منذ قرون، ولم تعد هناك قيود غربية، لكن التكوينات الاجتماعية حصرتْ الرأسماليةَ الوليدةَ في نشأتِها الأولى، وأضافَ إليها التصنيعُ التحويلي للمواد الخام حركة اقتصادية كبيرة، لم تستطع عبر سكانها أن تكون هي القوى العاملة الرئيسية فيها، فالقبيلةُ ظلت تهيمنُ على الدخول عبر شيوخِها، وتحركُ الحياةَ الاجتماعية عبر سيطرةِ رجالها، وتضعُ النساءَ فيما وراء الخيام يطبخن ويلدن، وتفهمُ العصرَ عبر النسيجِ المحافظِ لمذاهبِها. ولا تعرف ماذا تفعل بالغرباء العاملين الذين لم يعودوا ضيوفاً عابرين بل منتجين مؤسسين لدول النفط والغاز الطبيعي ومصانع البتروكيماويات. فلم يعودوا يكتفون بالتمر والقهوة والهيل وحكايات الليل.
وظهرتْ موديلاتٌ خليجيةٌ رأسمالية متعددة في هذا الواقع المشدود بين الماضي والعصر المندفع بسرعة الضوء، فهناك الموديل المدني القابع على البحر، صلته بالصحراء غدتْ ضعيفة ولكن مستمرة، وهو يشكلُ رأسماليةً مظهرية مجنونة بالأرباح السريعـــة والضخــــــامة التشــــيدية، وفي هذه المقاولات تدفقت أكثر الأموال وتاهت بين إدارات مهيمنة متوحدة في عليائها، وبين عمالات صغيرة كالنمل مجلوبة من شتى البلـــدان، مهــــمتها أن تبني هــــذه الإهرامـــــات الرملية والمصــــانع الخانقــــــة، وأبناء يركضـــون بسرعة للوظائــف الكتابية والعسكرية ليحلوا الكلمات المتقاطعة ومشاهدة المسلسلات.
كراهية العمل اليدوي، وتدهور الحرف والأسواق الشعبية، وتفكك القبائل، وتدفق البدو والفلاحين السابقين على المدن، كلها سمات جعلت القوى العاملة العربية الجزيرية غير كافية وغير قادرة على ملاحقة فوائض النفط المتجهة للبناء والتحولات العمرانية والاقتصادية، ولم تعمل الأدبياتُ المدرسيةُ الحفظية والمعلوماتية والعقليات النقلية النصوصية، على إنتاجِ أجيال عملية تقنية علمية، تقوم بمواكبة الفورة النفطية.
وأنقسمت المدنُ بين أغلبية عاملة أجنبية منتجة وأقلية عربية تعيش بين الإنتاج والترفيه الواسع، وأصبحت فنون التسلية والإضحاك بديلاً عن مغنيي الربابة، والسيارات الفخمة الملوثة طاردة للدواب النشطة النظيفة المؤسسة للنظافة البيئية السابقة، والتجارة الخارجية التي كانت واهنة صارت الشكل الكاسح من الحياة الاقتصادية، تضخُ السلعَ الأجنبية والسلعَ البشرية في فيضانات لا تعرف التوقف، وتسحبُ الفوائضَ النقدية الكبرى، وتحيلُ الجزيرةَ لأسواق تتكدس فيها البضائع المعمرة، والأسلحة والجيوش المستنزفة للثروات ومشروعات الحروب التي لا تتوقف، مُصدرةً الرساميل لتنمية البلدان الأخرى صناعياً.
ظلتْ البداوةُ هي التي تحركُ الرأسمالية متوجهةً للطافح من الإنتاج، مضخمةً الأجهزةَ مُحولةً إياها إلى مضافاتٍ سياسية، مستعيدةً نفسها دائماً عبر القبلية، والتضخم التجاري، وإفساد البيئات، وإنعاش الطوائف، والمظهريات الحضارية الباذخة، والأشكال المعمارية سيئة الذوق، وتغييب الجمال العمراني والرموز الإبداعية من الشوارع ومن الحياة.

صحيفة اخبار الخليج
10 يناير 2010