المنشور

لا شيء غير الحق..!

يبدأ الحديث المكتوب عادة بكلمات من نوع: “لا بد”، “مما لا شك فيه”، “من المؤكد أن”، “من الثابت أن”، “لا يختلف اثنان على أن”، أو بكلمات من نوع: “ينبغي”، “يجب”، “من الضروري”.
وليس مطلوباً من أي منا أن يبذل جهداً كبيراً لكي يلاحظ ذلك، تكفي نظرة على خطابنا المكتوب، نظرة سريعة جداً لنخرج بحصيلة وافرة من هذه المفردات سواء في مطالع الكلام أو في خواتمه أو بين ثناياه، فمن النادر أن نجد عبارات أو مفردات تحتمل الشك من نوع: “ربما”، “من الجائز”، “من المحتمل”.
لو دقق المرء في أمر استخدام هذا النوع من المصطلحات لوجد أن باعثه مستقر في العقل الباطن تعبيراً عن حقيقة أننا، وبنسبٍ تزيد أو تقل نتاج ثقافة اليقين. ونعني باليقين هذا الشعور بان ما نراه أو نفكر فيه هو الحقيقة المطلقة، لأنك حين تقول: “أنه لا يختلف اثنان على أن..” الخ، تكون قد جزمت بأنه ليس من حق الثاني، أو الآخر حسب التعبير الشائع أن يختلف معك، لأنك تكون قد قررت سلفاً إن ما تقوله هو الحق، ولا شيء غير الحق.
هناك خطر في ثقافة البداهة هذه، القائمة على التسليم بما نظنه أمراً أو أموراً بديهية أو مسلماً بها، والركون إلى البداهة يشل الفكر، يعطل قابلية المرء في أن يعيد النظر في ما سمعه أو تعوّد عليه، ويقدم له “الحقائق” جاهزة، وليس من شأن الحقيقة أن تكون جاهزة أو منجزة أبداً، الحقيقة تُبنى عبر التجربة والممارسة الذهنية والعملية الدائمة، المنتظمة، المستمرة، وهي ممارسة تفرض أو تقتضي المراجعة الدائمة للأحكام، لتدقيقها وتطويرها وتخليصها من الشوائب والزوائد، وتجديدها وتحريرها من الوهن الذي انتابها.
هل لهذا الكلام من مناسبة؟!
الحق، أن ليس له من مناسبة خاصة، ولا علاقة بحالة هنا أو حالة هناك. إنه ذو صلة بواقعٍ عامٍ نعيشه ويعاني منه خطابنا العربي عامة، وليس الخطاب المكتوب اليوم يختلف في شيء عن هذا الخطاب الشائع منذ زمن أو منفصلاً عنه، إنه قطعة من القماش الأكبر ويحمل الجينات نفسها. وفي واقعٍ متحولٍ، متغير كالذي نعيشه اليوم تتضاعف الحاجة لتحرير تكفيرنا من قيد البداهة والمسلمات والوصفات الجاهزة، والسعي لاجتراح مقولات جديدة نتاج هذا الظرف الجديد أو المتحول.
ولا يقف الأمر عند حدود المفردات أو العبارات، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك لأن اللغة في أكثر تعريفاتها انتشاراً هي وعاء للتفكير، أي أنها تشي بنمط هذا التفكير ومستواه وأبعاده. الأمر أبعد من المفردات، إنه يتصل بنسق التفكير، بسياقه ومنهجه.
 
صحيفة الايام
9 يناير 2010