المنشور

المحروقات مواد سريعة الاشتعال

احتمال رفع الدعم وبالتالي رفع أسعار المحروقات، وفي مقدمتها البنزين، الذي تلوح به الحكومة بعد استقرار استمر 30 عاماً لهذه الأسعار ألهب في الأيام الأخيرة حركة احتجاجية نشطة دبَّت في قاعة البرلمان وفي الصحافة والنقابات والأحزاب السياسية ولدى عموم الرأي العام في البحرين. ويحضِّر بعض القوى السياسية للتعبير عن هذا الاحتجاج في مسيرة جماهيرية في الثامن من يناير. تأتي هذه الحركة الاحتجاجية لا كرد فعل طبيعي على إجراء تعتبره الجماهير في غير صالحها فحسب، بل وكتعبير عن وعي مجتمعي للأبعاد الاجتماعية السياسية السلبية التي تنطوي عليها مثل هذه التوجهات ‘’الإصلاحية’’.
عرفنا من تاريخ الأزمات الاقتصادية تلازم بروز اتجاهين متناقضين في آن: الأول، سعي القوى المتنفذة لتحميل الفئات الدنيا في المجتمعات تبعات تلك الأزمات. وقد أصبح هذا السعي يتمثل بشكل ثابت في وصفات البنك وصندوق النقد الدوليين للدول النامية عادة للخروج من الأزمات. الثاني، أن هذه الأزمات تحفز إعمال الفكر لدى طلائع من اقتصاديين وقادة سياسيين للبحث عن حلول تحُول دون أن تؤدي تلك الأزمات إلى تهديد الأمن الاجتماعي، ما يقود بدوره إلى ردود فعل اجتماعية وتهديد للاستقرار السياسي. وتتجه هذه المعالجات المسؤولة نحو الحماية الاجتماعية وإعادة التوزيع وإعادة الإنتاج. ولذلك فإن سياسات الحد الأدنى للأجور وغيرها من سياسات الضمان الاجتماعي تعود إلى الفترة التي أعقبت الكساد الاقتصادي العظيم لثلاثينات القرن الماضي. ولا تزال هذه المحكات الثلاث من أهم قضايا معالجات مختلف البلدان للخروج من تأثيرات الأزمة العالمية الراهنة. ويستخدمها الخبراء في تقييم سياسات مختلف الدول في معالجاتها لقضايا التنمية.
أي الاتجاهين يفرض نفسه أكثر من الآخر في الفلسفة التنموية في بلادنا؟ لن تصعب الإجابة على هذا السؤال إذا ما ربطنا بين التلويح برفع الدعم وزيادة الأسعار وبين التوصيات – الوصفات التي خرج بها تقرير البنك الدولي توا في تقريره ‘’آخر التطورات والآفاق الاقتصادية المستقبلية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا .’’2009 نقتطف من التقرير فقرة تقول ‘’ربما يكون الوقت المناسب قد حان الآن لقيام بلدان المنطقة بترشيد المستويات المرتفعة لإعانات الدعم المالي والإنفاق الاجتماعي الذي يستقطع نسبة كبيرة من الموارد العامة ولكنه نادراً ما يصل إلى مستحقيه من الفئات الاجتماعية الضعيفة والقطاعات المستهدفة. إذ يتم في أغلب البلدان تطبيق إعانات دعم أسعار جميع أنواع الوقود والكهرباء’’. ورغم دعوة التقرير للأسر الغنية بالتنازل عن هذا الدعم إلا أن في ذلك دعوة مبطنة لتحميل الأسر الفقيرة العبء الأكبر من ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية. فبالنسبة للوقود مثلاً يستفاد من دراسة ‘’الأوضاع المعيشية في مملكة البحرين في مطلع الألفية الثالثة’’ التي أعدها جورج قصيفي العام 2004 أن نفقات الوقود والإضاءة والمياه تمثل 5.2 % من إنفاق الأسرة التي يقل دخلها عن 2400 دينار سنوياً، بينما يشكل 1.6% فقط للأسرة التي يزيد دخلها عن أربعين ألف دينار. وأوضح هنا ما سيعكسه ارتفاع أسعار الغاز على الفقراء. أما ارتفاع أسعار البنزين فسينعكس على شكل ‘’مقص’’ يأكل من الجانبين: ارتفاع كلفة استخدام وسائط المواصلات الخاصة والعامة وارتفاع أسعار نقل البضائع الذي سينعكس على أسعار البضائع محدثا ما يسمى ‘’بأثر الدومينو’’ التسلسلي في ارتفاع أسعار مختلف السلع والخدمات لاحقاً.
من وجهة أخرى ترتبط السياسة التسعيرية على مواد الوقود بقناة أخرى من قنوات التوزيع، وأكثر اتساعاً في ضد مصلحة الفئات الفقيرة. نعني بذلك التوجه لخصخصة محطات بيع الوقود بعد جعل هامش الربح أعلى كثيراً مما كان عليه في الثلاثين سنة الماضية. هذا أيضاً ليس بعيداً عن نصيحة تقرير البنك الدولي الذي يقول: ‘’يجب أن يكون تحفيز أنشطة القطاع الخاص ونموه عنصراً مهماً في أي برنامج من برامج تحفيز الانتعاش الاقتصادي. وبناء عليه، تعتبر إزالة ‘’الاختناقات المؤسسية’’ الناتجة عن برامج إعانات الدعم سببا آخر للاستفادة من فرصة نشوب هذه الأزمة..’’!
وفي حين ستشكل طفرة الأسعار هذه البداية قبل الخصخصة، فلن تكون سوى بداية طفرات لاحقة. وليس صعباً أن نعرف من هو المتضرر الحقيقي من توجهات إعادة توزيع الملكية عن طريق هذا النمط من الخصخصة.
أما المجتمع ففي حين يستنفر كل وسائله الدفاعية الحضارية فإنه يفعل ذلك إدراكا منه ليس فقط بأن استقرار الأسعار لا يقل أهمية، بل ويزيد على ارتفاع الأجور رغم أهمية الربط بين الاثنين، وإنما أيضا إرسال رسالة واضحة بأن المؤسسات المالية الدولية التي كانت سببا مهما في تفجير الأزمة العالمية ليست هي المؤهلة لوضع حلول الخروج منها، ولمشكلاتنا الاقتصادية الاجتماعية عموماً.
 
صحيفة الوقت
4 يناير 2010