المنشور

مرة أخرى‮ ‬يجبن الأوروبيون

كانت خطوة جريئة تلك التي‮ ‬أقدمت عليها السويد حين وظفت رئاستها الدورية النصف سنوية للاتحاد الأوروبي‮ ‬في‮ ‬الإقدام على اتخاذ إجراء عملاني‮ ‬متمثل في‮ ‬التقدم إلى المجلس الوزاري‮ ‬الأوروبي‮ ‬باقتراح اعتبار وجعل القدس الشرقية عاصمةً‮ ‬للدولة الفلسطينية‮.‬
الخطوة السويدية تجاوزت كما هو واضح الإعلانات الطنانة المعلنة للدول الأوروبية الرئيسية بشأن القدس والتي‮ ‬لا تتجاوز التصريحات اللفظية المعبرة عن مواقفها الذاهبة لاعتبار القدس الشرقية جزءاً‮ ‬من الأراضي‮ ‬الفلسطينية المحتلة عام‮ .‬‭.‬1967‮ ‬يسري‮ ‬عليها ما‮ ‬يسري‮ ‬على الضفة الغربية وقطاع‮ ‬غزة من حيث كافة أعمال الاستيطان التي‮ ‬تقوم بها إسرائيل فيها‮ ‬غير شرعية‮.‬
هذه الدول الأوروبية وتحديداً‮ ‬فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا التي‮ ‬ما فتئت ترسل مبعوثيها إلى المنطقة وإلى الأراضي‮ ‬الفلسطينية المحتلة،‮ ‬وتستقبل قيادات وممثلي‮ ‬السلطة الوطنية الفلسطينية،‮ ‬وتغدق عليهم الوعود والتصريحات الموحية ظاهرياً‮ ‬بتعاطفها مع الحق الفلسطيني،‮ ‬لم‮ ‬يسجل لها طوال تاريخ الصراع العربي‮ ‬الإسرائيلي‮ ‬أن اتخذت خطوةً‮ ‬أو حتى موقفاً‮ ‬عملياً‮ ‬يدلل على صدق أقوالها‮.‬
بل إن العكس هو الصحيح،‮ ‬فكل مواقفها العملية كانت تتخذ دون حياء لصالح إسرائيل،‮ ‬سواء بالدعم السياسي‮ ‬أو دفاعاً‮ ‬عنها وتبريراً‮ ‬لجرائمها ضد العرب عموماً‮ ‬والفلسطينيين خصوصاً‮.‬
لذلك فلقد أُسقط في‮ ‬يديها عندما تقدمت السويد باقتراحها القاضي‮ ‬بجعل القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية،‮ ‬إذ أوقعها هذا الاقتراح المعروض على الدول الـ‮ ‬27‮ ‬الأعضاء في‮ ‬الاتحاد الأوروبي‮ ‬لتبنيه وإقراره في‮ ‬صورة بيان رسمي‮ ‬يعبر عن موقف الاتحاد الأوروبي‮ ‬من قضية القدس التي‮ ‬تشكل إحدى القضايا التي‮ ‬نجحت الدبلوماسية الأمريكية في‮ ‬وضعها على الرف‮ (‬إلى جانب قضية اللاجئين وحدود الدولة الفلسطينية‮) ‬منذ انطلاق مفاوضات التسوية أولاً‮ ‬في‮ ‬مدريد في‮ ‬عام‮ ‬1991‮ ‬وتالياً‮ ‬في‮ ‬أوسلو في‮ ‬عام‮ ‬‭,‬1993‮ ‬وذلك بهدف التسويف والمماطلة وإعطاء إسرائيل الوقت الكافي‮ ‬لخلق وقائع على الأرض تجعل،‮ ‬في‮ ‬نهاية المطاف،‮ ‬التفاوض على هذه القضايا ضرباً‮ ‬من الجري‮ ‬خلف السراب‮ ‬‭-‬‮ ‬لقد أوقعها هذا الاقتراح‮ (‬السويدي‮) ‬في‮ ‬مأزق اضطرها للكشف عن حقيقة مواقفها المنافقة والمخاتلة‮.‬
حيث سارعت للبحث عن سبيل لاحتواء هذا التطور النوعي‮ ‬في‮ ‬الموقف السويدي‮ ‬غير المرغوب فيه،‮ ‬فكان أن اهتدت فرنسا ومعها ألمانيا وبعض الدول الثانوية مثل تشيكيا العضو الجديد في‮ ‬الاتحاد الأوروبي،‮ ‬إلى الصيغة الضبابية إياها وهي‮ ‘‬لابد من إيجاد سبيل عبر التفاوض لتسوية وضع القدس لتصبح عاصمة مستقبلية لدولتين‮’‬،‮ ‬أي‮ ‬إحالة الموضوع إلى دوامة المفاوضات إياها،‮ ‬وكأنك‮ ‬يا بوزيد‮ (‬أو‮ ‬يا بوالسويد في‮ ‬هذه الحالة‮) ‬ما‮ ‬غزيت‮!‬
فلقد تصدت للمقترح السويدي‮ ‬ألمانيا التي‮ ‬أعربت هي‮ ‬وتشيكيا عن‮ ‘‬رفضهما فرض حلول على إسرائيل والفلسطينيين‮’. ‬كما أكد وزير خارجية إيطاليا فرانكو فراتيني‮ ‘‬إن قضية القدس‮ ‬يجب أن لا تحسم بشكل أحادي‮ ‬وإنما‮ ‬يجب التفاوض بشأنها‮’. ‬ويقال أن فرنسا وتحديداً‮ ‬وزير خارجيتها كوشنير لعب دوراً‮ ‬منسقاً‮ ‬في‮ ‬إحباط المقترح السويدي‮.‬
انه بالتأكيد موقف متناغم تماماً‮ ‬مع استراتيجية الماراثون التفاوضي‮ ‬قاطع للنفس التي‮ ‬تنتهجها واشنطن لحماية إسرائيل من استحقاقات تطبيق قرارات الشرعية الدولية،‮ ‬وأيضاً،‮ ‬ويا للمفارقة جميع استحقاقات المبادرات الأمريكية المتناسخة المطروحة‮ ‘‬لمعالجة‮’ ‬المشكل الشرق أوسطي‮.‬
لما كان ذلك فقد كان لابد لإسرائيل أن تتنفس الصعداء وأن تعرب عن ارتياحها من إحباط المقترح السويدي‮ ‬حسبما ورد في‮ ‬بيان وزارة الخارجية الإسرائيلية الذي‮ ‬جاء فيه‮ ‘‬نظراً‮ ‬إلى الصيغة الأولى المتشددة التي‮ ‬طرحتها الرئاسة السويدية،‮ ‬لا‮ ‬يسعنا إلا أن نعبر عن ارتياحنا في‮ ‬نهاية المطاف لأن صوت الدول المسئولة والمتزنة‮ (!!) ‬كانت له الغلبة‮’!‬
أوروبا،‮ ‬بهذا المعنى،‮ ‬لا تختلف كثيراً‮ ‬في‮ ‬دعمها لإسرائيل عن الولايات المتحدة الأمريكية سوى أنها أكثر‮ ‘‬لباقة‮’ ‬وأكثر‮ ‘‬دبلوماسية‮’ ‬في‮ ‬خداع ومراوغة الجانب العربي‮ ‬على طريقة‮ ‘‬يُعطيك من طرف اللسان حلاوة ويزوغ‮ ‬عنك كما‮ ‬يزوغ‮ ‬الثعلبُ‮’.‬
هذا التكتيك هو‮ ‘‬لزوم عدة الشغل‮’ ‬كما‮ ‬يقال‮. ‬فالخطاب الملتبس قصداً‮ ‬له‮ ‬غاية تتمثل في‮ ‬إعطاء انطباع إيجابي‮ ‬عن الموقف الأوروبي‮ ‬من القضية الفلسطينية وتمييزه،‮ ‬حتى ولو كان لفظياً،‮ ‬عن الموقف الأمريكي‮ ‬السافر والفج،‮ ‬وذلك من أجل تسهيل المهام التسويقية للرؤساء ورؤساء الحكومات الأوروبيين الذين‮ ‬يترددون على بلدان الإقليم العربي‮ ‬من حين لآخر لعرض بضائعهم من السلاح والمفاعلات النووية وتنفيذ مشاريع البنية التحتية الضخمة من محطات كهربائية وشبكات نقل ونحوها‮.‬
لذلك نقول لو انه تم إشعار هذه‮ ‘‬الأوروبا‮’ ‬المخاتلة بأن حصولها على عقود هذه المشاريع مرهون بما تقدم عليه من إجراءات ومبادرات عملية‮ ‬‭-‬‮ ‬وليست لفظية‮ ‬‭-‬‮ ‬في‮ ‬قضايا الصراع العربي‮ ‬الإسرائيلي،‮ ‬لما تجرأت على مقابلة سخاء التعهيد المتعلق بهذه المشاريع،‮ ‬بتلك اللغة الصماء المخاتلة والمنافقة،‮ ‬ولكان ميزان القوى،‮ ‬على صعيده السياسي‮ ‬على الأقل،‮ ‬أضحى أقل اختلالاً‮ ‬مما هو حادث اليوم.
 
صحيفة الوطن
2 يناير 2010