المنشور

لفهم زمننا

ما الذي يجمع بين رجل فرنسي وآخر ألماني. لقد تقاتل بلداهما وسفك أحدهما دم الآخر حتى القطرة الأخيرة تقريباً، وحتى اليوم ما زال بالإمكان رؤية جراح حربيهما العالميتين والحروب التي ترجع إلى القرن السادس عشر. إن الشرخ بينهما ليس نتاج اللغة وحدها، بل إنه نتاج عوامل أخرى عديدة تمتد عميقاً في التاريخ. هذا سؤال أول. لكن ثمة سؤالا ثانٍ لا يقل أهمية: ما الذي يجمع بين أديب، روائي وبين عالم اجتماع. في الغالب يجلس الفلاسفة في زاوية وعلماء الاجتماع في زاوية أخرى، بينما يتشاجر الكتاب في الغرفة الداخلية، ولا يحدث، أو من النادر أن يحدث، حوار عميق وحقيقي بين عالم اجتماع وبين أديب. هذا على الأقل ما يعتقده جونتر جراس الأديب الألماني مؤلف “الطبل الصفيح” التي نال عنها جائزة نوبل. وهذا الكلام قاله جراس الألماني وهو يحاور الفرنسي عالم الاجتماع الراحل بيير بورديو. إنهما معاً يدركان مقدار الحواجز الموضوعية التي تجعل من حوارهما متعذراً أو صعباً، كونهما أولاً ينتميان إلى بلدين لم يكونا عادة على وئام، وكونهما يشتغلان في حقلين يبدوان في الظاهر متناقضين أو مختلفين على الأقل. ولكن محرراً ذكياً اسمه أليكس كولينيكوس، جمع الرجلين في حوار نشرت “الثقافة العالمية” الكويتية ترجمة له وضعها محمد الأسعد. مجرى الحوار كشف زيف الانطباع السائد عن أن الأدب وعلم الاجتماع يتحركان في مدارين مختلفين، بل بدا واضحاً أن الرجلين يعرف أحدهما الآخر جيداً لا بالمعنى الشخصي وإنما بالمعنى الفكري والثقافي وحتى الإبداعي. جراس خاطب بورديو قائلاً أن حكايات هذا الأخير تغريه بوصفه كاتباً، لينطلق منها كمادة خام في عمله الإبداعي، ويعطي على ذلك مثالاً: قصة الشابة التي تغادر الريف إلى باريس، وتعمل في فرز الرسائل ليلاً، حيث حصلت كل النساء الشابات على وظائف يحدوهن الأمل أنهن بعد بضع سنوات سيحققن حلمهن ويرجعن إلى قراهن لتسليم الرسائل البريدية، لكن هذا لا يتحقق أبداً، فهن سيبقين فارزات للرسائل في العاصمة. لكن ليس هذا وحده ما يجمع بين الرجلين، بين الروائي وبين عالم الاجتماع، إنهما معاً مأخوذان بالفكرة التي يدعيانها: “الإحياء التقدمي”. فهما يريان كيف أن أوروبا التي ينتسبان إليها تذهب سريعاً إلى ما يوصف بـ “الليبرالية الجديدة” مأخوذة بالمناخ المحافظ القادم من وراء المحيط. إنهما يظهران قلقهما من فقدان تقاليد عصر التنوير، أمام هذا الاندفاع الطائش لليبرالية الجديدة التي تقدم نفسها بوصفها ثورة، فيما هي في الحقيقة ردة كبيرة للوراء. إنها بتعبير بورديو: “ثورة محافظة”، فهي ارتداد يحول نفسه إلى شكل من أشكال التقدم، وهي تجيد هذا فعلاً لأنها تجعل كل من يعارضها مرتداً. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي شعرت الرأسمالية، في صورتها الجديدة، أنها يمكن أن تطلق العنان لنزواتها كما لو كانت خارج السيطرة، ولم يعد هناك ثقل مضاد يوازنها. إن الرجلين يطلقان في هذا الحوار تأملات عميقة جديرة بالقراءة والمعاينة القريبة لأنها تعيننا على فهم زمننا بعون من اسمين ينظر إليهما بتقدير كبير في أوروبا وفي العالم.
 
صحيفة الايام
31 ديسمبر 2009