المنشور

محطتان للتأمل ..!


محطتان تستحقان التوقف عندهما وتستدعيان التفكير والتأمل والحفاوة .. بقدر ما تستحقان البحث عن قاسم مشترك فيما بينهما اذا كنا نستهدف التدبر والمراجعة . المحطة الأولى عن تداعيات قضية كارثة السيول في جدة، حيث لا نجد مفراً من الإشارة إليها والتنويه بها فهي القضية التي فاجأتنا بما لم يكن في الحسبان وكشفت مستوراً لم يخطر على بال عنوانه الفساد الخطير في تداعياته ومالآته .. !
أما المحطة الثانية فهي تتصل بمبادرة وزارة الداخلية بإنشاء شعبة خاصة بمكافحة الفساد وتخصيص خط ساخن لتلقي الشكاوي والملاحظات المتعلقة بحالات الفساد لمتابعتها والتأكد من حدوثها واتخاذ الإجراءات المناسبة بصددها .
في المحطة الأولى تنبهنا قضية كارثة السيول في جدة وما أدت إليه من خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات الى ما أظهره خادم الحرمين الشريفين من شجاعة باعترافه الصريح بأن هناك أخطاء وأوجه قصور ممن أؤتمنوا على أداء مهام عامة ولم يقوموا بواجبهم، وبأن كل من أنحرف أو أخطأ أو أهمل سواء من الجهات الحكومية أو الشركات والمؤسسات التي نفذت المشاريع والمسؤولين الرسميين ، لن يكون أي منهم في منأى عن أي مساءلة أو حساب مهما علا شأنه ومقامه.
اذا أمعنا جيداً في هذه القضية وتداعياتها فسوف نجد بأنه لم يتم قلب الحقائق ، ولم تعزى أسباب الكارثة الى القضاء والقدر، ولم تبرر الأخطاء ، ولم يزين القبح، لم يحدث ذلك وإنما كان هناك اعترف صريح وواضح من قمة السلطة بالخطأ من زاوية “ إن الفاجعة لم تأت تبعاً لكارثة غير معتادة مثل الأعاصير والفيضانات الخارجة عن الإرادة والسيطرة، لأن الأمطار التي سقطت بمعدلاتها هذه تسقط كل يوم على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في جدة “. هو اعتراف واضح في المعنى والدلالة والتوجه اتضحت ملامحه بعد أن اقترن بتشكيل لجنة تحقيق “ منحت كل الصلاحيات لمحاسبة كل مقصر ومتهاون ومخل بأمانة المسؤولية الملقاة عليه والثقة المنوطة به “ ، واذا كان اللافت أن اللجنة قد باشرت سريعاً مهامها للوقوف على مواقع الشقوق والتصدعات في الأعمال والمهام والمسؤوليات والضمائر ومنعت من السفر مسؤولين سابقين وحاليين في أجهزة تنفيذية ورجال أعمال يمثلون الشركات والمؤسسات المعنية بالصفقات والعقود والمشاريع ذات الصلة بالبنية التحتية وأعمال الصرف الصحي وتصريف مياه الأمطار، والتجهيزات العامة، واستدعتهم للتحقيق في إجراء وصف بأنه غير مسبوق، وهي إشارات وتطورات رحبت بها الجمعية الوطنية السعودية لحقوق الإنسان واعتبرتها بأنها تعكس الرغبة الأكيدة في إشاعة روح المساءلة والمحاسبة لوضع الأمور في نصابها الصحيح بشكل لا يقبل التبريرات أو المواربة أو الأعذار أو التستر خاصة عندما تكون خسارة الوطن تفوق أي تقدير .
 
أليس ذلك أمرا يستحق الترحيب والحفاوة، ثم أليس ذلك الذي حدث في جدة باعث يدفعنا الى التأمل والمراجعة لعلنا نكتشف بدورنا ما لم يكن في الحسبان أو ما قد يثير لدينا أصعب وأعقد الأسئلة التي ينبغي أن تؤخذ محمل الجد .. ليس فقط تلك التي تقف عند حدود الإشكاليات التي نواجهها بعد كل موسم مطر ، كتلك التي شهدناها في الأيام الماضية رغم أن كل الجهات ذات الصلة ألفنا ادعاءاتها بالجاهزية الكاملة لمواجهة مآسي الأمطار التي تتكرر كل عام من دون مساءلة أو محاسبة ، وإنما المسألة أبعد من ذلك..!!
 
أما المحطة الثانية التي تتصل بمبادرة وزير الداخلية باستحداث شعبة في الإدارة العامة للمباحث الجنائية مهمتها مكافحة الفساد ، من زاوية أن الفساد يهدد النمو الاقتصادي ويعيق مسيرة التنمية ويخلق المزيد من الإرباكات في الخطط الوطنية للتطوير والتحديث ويزيد معدلات التضخم ويضر بمبادىء العدالة والنزاهة والشفافية وتكافؤ الفرص ، ويهدد المال العام . هذه المبادرة تستحق الثناء ونشاطر من رحب بها وأيدها، ومن المؤمل أن تكون خطوة على طريق محاربة الفساد بجميع صوره وأشكاله ، بقدر ما هو مؤمل أن يكون توجه مجلس الوزراء المعلن في اجتماعه بتفعيل دور الرقابة الذاتية في الوزارات والأجهزة الحكومية وإيجاد آلية جديدة للتدقيق والرقابة تكفل تنفيذ توصيات وملاحظات ديوان الرقابة هو الآخر خطوة في هذا الطريق ، تضاف الى خطوات أخرى مطلوبة بإلحاح كنا قد استفضنا في تناولها سعياً وراء منظومة متكاملة رسمياً وأهلياً وبرلمانياً لمكافحة الفساد، نعود الى مبادرة وزارة الداخلية ونرى أنه بمقدور الوزارات والجهات الخدمية أن تحذوا نفس الخطوة التي قامت بها الوزارة لعل كل جهة بهذه الخطوة تفعل دورها بعيداً عن أي تقلبات ومناورات وتلكؤات يراد منها أن تظهر هذه الجهة أو تلك بأنها تتبرأ من الفساد وتكون ذا طابع مسرحي ، وهو أمر لا يستسيغه المواطن المتعطش بأن يلمس جدية في محاربة الفساد وأفعالاً تقنعه بأنه ليس هناك محصن ضد العقاب والمحاسبة، بقدر ما هو متعطش الى إجراءات وتشريعات وقبل ذلك إرادة وحسم لا مناص منهما في محاربة الفساد دونما هزل أو تمويه وبهرجة إعلامية مما ينال من صدقية الوجهة والتوجه.
 
الأيام 26 ديسمبر 2009