المنشور

شبح نموذج باكستان‮ ‬يحوم على العراق

ما هو الجامع والمشترك بين النموذج الباكستاني‮ ‬الذي‮ ‬اختارت نخبته السياسية والعسكرية الفاسدة تطبيقه بالانعطاف منذ النصف الثاني‮ ‬من عقد سبعينيات القرن الماضي‮ ‬صوب الانغلاق والارتداد الحضاري‮ ‬بتمكين جماعات التطرف الإسلامي‮ ‬من السيطرة على مصادر التطور والتراكم الحضاري‮ ‬في‮ ‬ذات الوقت الذي‮ ‬انعطفت فيه جارتاها الصين والهند نحو ارتياد آفاق التقدم الاقتصادي‮ ‬والعلمي‮ ‬والتقني‮ ‬‭-‬‮ ‬نقول ما هو الجامع والمشترك بين هذا‮ ‘‬النموذج التنموي‮’ ‬الباكستاني‮ ‬وبين النموذج العراقي‮ ‘‬الطازج‮’ ‬الذي‮ ‬يجري‮ ‬بناؤه منذ عام‮ ‬2003‮ ‬أي‮ ‬منذ العدوان الأمريكي‮ ‬البريطاني‮ ‬الغاشم على العراق واحتلاله؟
لعلها العقدة‮ (‬الرابطة‮) ‬المشؤومة إياها التي‮ ‬ذهبت عنواناً‮ ‬للكتاب الجديد للكاتب الباكستاني‮ ‬العميق والمبدع طارق علي‮ ‘‬الثنائي‮ .. ‬باكستان على الطريق الطائر للقوة الأمريكية‮’ ‬‭(‬The Duel‭ – ‬Pakistan on the Flight Path of American Power‭)‬‮ ‬الذي‮ ‬كنا تطرقنا إليه في‮ ‬مقالنا السابق‮.‬
‮’‬الثنائي‮’ ‬الذي‮ ‬جعله طارق علي‮ ‬موضوع كتابه المذكور عاليه هما المؤسسة العسكرية الباكستانية والولايات المتحدة الأمريكية اللتان‮ ‬يحمّلهما الكاتب مسؤولية الحالة الرثة التي‮ ‬انتهت إليها باكستان اليوم‮.‬
هذا النموذج التحالفي‮ ‬الباكستاني‮ – ‬الأمريكي‮ ‬الذي‮ ‬مارست حكومات الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبة تطبيقه عبر تاريخها الحديث في‮ ‬غير بقعة من العالم وخصوصاً‮ ‬في‮ ‬بلدان أمريكا الجنوبية التي‮ ‬تعتبرها بمثابة حديقتها الخلفية والتي‮ ‬أنشئت فيها مؤسسات عسكرية‮ (‬حرس وطني‮ ‬في‮ ‬الغالب الأعم‮) ‬أنتجت طغمة عسكرية استبدادية في‮ ‬كل بلد من تلك القارة لازالت شعوبها تدفع أثماناً‮ ‬باهضة لحقبتها السوداء‮ ‬‭-‬‮ ‬نقول هذا النموذج التحالفي‮ ‬الباكستاني‮ – ‬الأمريكي،‮ ‬اختارت واشنطن،‮ ‬على جري‮ ‬عادتها في‮ ‬بناء علاقاتها الدولية،‮ ‬أن تطبقه في‮ ‬العراق وذلك من خلال إنشاء تحالف مصالح مع القوى الطائفية المتعطشة للصعود إلى السلطة في‮ ‬العراق بأي‮ ‬ثمن لإرضاء‮ ‬غرورها الطائفي‮ ‬وتحقيق أجندتها الطائفية الضيقة،‮ ‬حيث أنشأت هذه القوى،‮ ‬بعد أن مكنتها واشنطن من تحقيق هدفها في‮ ‬انتزاع السلطة،‮ ‬أجهزة أمنية لا تختلف كثيراً‮ ‬عن المؤسسات العسكرية والأمنية الباكستانية المتحالفة تاريخياً‮ ‬مع واشنطن‮.‬
فما الذي‮ ‬جرّه هذا التحالف على العراق؟
بما أن هذا التحالف،‮ ‬شأنه شأن الحلف القائم بين المؤسسة الأمنية الباكستانية وواشنطن،‮ ‬أشادته عقليات بوليسية على أساس من الثأرية والكيدية المتمحورة حتماً‮ ‬حول مصالح‮ ‘‬الثنائي‮’ ‬إياه‮ .. ‬واشنطن لتأمين مصالحها الجيوبوليتيكية والنفطية،‮ ‬والقوى الطائفية والعشائرية لتحقيق مبتغاها في‮ ‬خطف الحكم وإشادة نموذجها التنموي‮ ‬الفوضوي‮ ‬العاج بنزعات الإقصاء والاستبداد والفساد‮ ‬‭-‬‮ ‬نقول بما أن هذا التحالف قائم بهذه الصفة فقد كان لابد أن‮ ‬ينتج التمظهرات التالية‮:‬
‮(‬1‮) ‬تحوُّل نزعات تقسيم العراق التي‮ ‬أثارها وأشاعها المحتل الأمريكي‮ ‬إلى مشاريع تطبيقية قطعت شوطاً‮ ‬بعيداً‮ ‬خصوصاً‮ ‬في‮ ‬المنطقة الكردية بشمال العراق‮. ‬وحتى في‮ ‬جنوب العراق ظل بعض المكونات السياسية العراقية إلى وقت قريب‮ ‬يتناغم مع الدعوات والتوجهات الأمريكية لتقسيم العراق إلى ثلاثة أقاليم لولا أن هذه السياسة لا تتمتع بنفس الحظوظ التي‮ ‬تمتعت بها في‮ ‬شمال العراق لأسباب قومية وروباط عشائرية ووشائج أسرية وروابط اقتصادية‮ (‬بين المناطق الجنوبية والغربية‮)‬،‮ ‬هي‮ ‬في‮ ‬المحصلة عوامل طاردة للأفكار الانفصالية والانعزالية المغامرة‮.‬
‮(‬2‮) ‬إطلاق المارد الطائفي‮ ‬من قمقمه،‮ ‬حيث راحت القوى الطائفية والانعزالية تتخندق وتتمترس خلف حيزها الطائفي‮ ‬بالغ‮ ‬الضيق والديماغوجبا،‮ ‬وطفقت تمارس الطأفنة في‮ ‬كل شيء‮ .. ‬ابتداءً‮ ‬من التوظيف والتثقيف الجماهيري‮ ‬البروباغاندي‮ ‬إلى تقنين العلاقات مع الآخر‮.‬
‮(‬3‮) ‬والنتيجة أن أضحى العراق اليوم مقسماً‮ ‬على الأقل من الناحيتين النفسية والثقافية‮ (‬اعتباراً‮ ‬بسيادة ثقافة الطأفنة والإقصاء‮).‬
‮(‬4‮) ‬طبعاً‮ ‬أدى انسحاب قوات الاحتلال الأمريكية من المدن العراقية وتوجيه اهتمام الإدارة الأمريكية الجديدة وتركيزه على أفغانستان،‮ ‬إلى إرخاء القبضة الأمريكية في‮ ‬العراق قليلاً‮ ‬وبالتالي‮ ‬توفير مساحة أكبر للعراقيين لاستعادة وعيهم وإعادة الاعتبار للمكون العراقي‮ ‬الجمعي‮ ‬وللوطنية العراقية على حساب نزعات الطأفنة والانعزالية‮. ‬إنما لازالت القوى الطائفية والانعزالية التي‮ ‬توفر الأساس،‮ ‬حتى اللحظة،‮ ‬لصيغة‮ ‘‬الثنائي‮’ ‬المشؤومة إياها،‮ ‬تشكل عائقاً‮ ‬أمام إعادة الأمور إلى نصابها الوطني‮ ‬في‮ ‬العراق‮.‬
‮(‬5‮) ‬وكما في‮ ‬حالة‮ ‘‬الثنائي‮’ (‬الأمريكي‮/‬الباكستاني‮) ‬فإن العراق اليوم‮ ‬يقف في‮ ‬صدارة بلدان العالم الأكثر تلوثاً‮ ‬وتلويثاً‮ ‬بالفساد الذي‮ ‬يكاد‮ ‬يعم كافة مؤسسات الدولة العراقية،‮ ‬المدنية والعسكرية‮.‬
‮(‬6‮) ‬أخيراً‮ ‬وليس آخراً‮ ‬فإنه وعلى‮ ‬غرار النموذج‮ ‘‬التنموي‮’ ‬الباكستاني،‮ ‬تمسك قوى الإسلام السياسي‮ ‬المتشددة بأطيافها المذهبية المختلفة،‮ ‬بخناق العراق وتهدد في‮ ‬كل لحظة استقراره ولحمته الوطنية وتواصل بمعاولها هدم مصادر وفرص التحديث والتقدم التي‮ ‬تحاول القوى العراقية المدنية دفعها دفعاً‮ ‬متجاسراً‮ ‬لمزاحمة أجندات الارتداد الحضاري‮ ‬بالغة الشوكة وعالية الصوت‮.‬
ولعل ما حدث بين التيارات والقوى السياسية التي‮ ‬تتصارع اليوم على السلطة في‮ ‬العراق قبل أيام،‮ ‬من تجاذب خطير بين هذه القوى على خلفية محاولة إقرار قانون الانتخابات الجديد،‮ ‬يؤكد المنحى الطائفي‮ ‬الذي‮ ‬تم استدراج العراق‮ ‘‬الجديد‮'(!) ‬إليه بعناية فائقة والإيقاع به في‮ ‬شركه‮. ‬حيث نشبت الصراعات على أساس المحاصصة الطائفية وليس على أساس برامج إنقاذ وإعادة بناء وطنية.
 
صحيفة الوطن
19 ديسمبر 2009