المنشور

لكن الجوع صناعة رأسمالية (3-3)

ختمنا حلقة يوم أمس بالقول انه بالرغم من الدور المحوري الأساسي للدول الرأسمالية الكبرى وعلى رأسها الولايات المتحدة في التسبب في ظاهرة الجوع الذي وصفناه بأنه صناعة رأسمالية بامتياز ليس على الصعيد الداخلي للدول الرأسمالية فحسب بل على الصعيد العالمي، فإنه يحسب لتلك الدول الكبرى على الأقل انها تعترف بوجود هذه الظاهرة في مجتمعاتها وتعمل على رصدها ونشر مؤشراتها واحصائياتها بقدر معقول من الشفافية يفوق الحد الادنى من المصداقية بصرف النظر عن عدم اعترافها بمسؤولية انظمتها السياسية الرأسمالية عن خلق ازمة الجوع محليا وعالميا ومفاقمة كوارثها، في حين ان الدول العربية لا تجرؤ على الاعتراف بالظاهرة وان اعترفت بها فانها تصورها محدودة، وبالتالي فكيف لها ان تتبنى خططا واستراتيجيات لمكافحة الجوع والقضاء عليه في بلدانها؟
والحال ان الدول الرأسمالية لا تتميز عن الدول العربية والعالمثالثية عامة بنشر مؤشرات واحصائيات الجوع دوريا فحسب، بل لا يعدم المرء في هذه الدول مبادرات فردية وجماعية كبرى بعضها ذو طابع مؤسسي دائم لمساعدة الفقراء واطعام الجائعين وطرح مشاريع وافكار للتقليل مما يمكن تقليله من اعدادهم ان على الصعيد الداخلي وان على الصعيد الخارجي.
ومع ان المبادرات والمشاريع التي تتبناها شخصيات من الاثرياء والمليارديرية أو حتى شخصيات عالمية واجتماعية عادية هي تتم في إطار فلسفة وآليات النظام الرأسمالي القائم، الا انه تظل الحاجة إليها على الدوام قائمة ووجودها مهما يشوبها من عيوب أو كونها لا تحل المشكلة من جذورها افضل من عدم وجودها بالمرة، وهذا ما يميز الدول الرأسمالية الكبرى الديمقراطية عن دولنا المعروفة بأنظمتها الرأسمالية الطفيلية غير المنتجة والتابعة لتلك الدول الرأسمالية الكبرى، ناهيك عن احجام الغالبية العظمى من رجال الاعمال الكبار والاثرياء في بلداننا عن تبني مشاريع كبيرة مؤثرة لمكافحة الفقر والجوع وحيث يكتفون في الغالب بمبادرات مؤقتة شكلية لرفع العتب ولا تسمن ولا تغني من جوع.
ثمة شخصيات عديدة غربية كرست ونذرت نفسها وكرست حياتها لمكافحة الجوع بشتى الوسائل السلمية الممكنة وبذلت كل ما في مقدورها لمساعدة جياع بلدانها والعالم، ولعل من ابرز هذه الشخصيات التي لعبت دورا ملموسا في هذا الصدد داخل الولايات المتحدة اكبر دولة رأسمالية وأكبر دولة مسؤولة عن صناعة الجوع في بلدها وفي العالم نورمان بورلوغ عالم النباتات الامريكي الذي رحل عن عالمنا في سبتمبر الفائت عن عمر يناهز 95 عاما بعد حياة مديدة كرسها من أجل انقاذ حياة مئات الملايين من الفقراء والجياع من خلال الانكباب على ابتكار الافكار والمخترعات والتجارب الزراعية التي من شأنها زيادة الطعام في دول أمريكا اللاتينية وآسيا وبفضل ما حققه من انجازات في هذا الصدد لقب في الستينيات بـ “الاب الروحي للثورة الخضراء” وتم بفضل اكتشافاته جعل العديد من المحاصيل ذات انتاجية عالية ومتنوعة التي أسهمت حينذاك في التخفيف من المجاعات التي كان يتوقع ان تحدث على نحو كارثي واسع النطاق، ومن هذه المحاصيل القمح من الاسمدة الكيماوية.
واعتبر البعض نجاحاته في هذا الشأن غيرت مسار التاريخ وبفضلها تمكنت الهند والمكسيك من ان تحققا الاكتفاء الذاتي في مجال الحبوب النباتية بعدما كانتا تعانيان نقصا في الغذاء، وحينما منح جائزة نوبل للسلام عام 1970 بررت لجنة نوبل منحه الجائزة بالقول إنه “ساعد على توفير الغذاء للجياع في العالم كله أكثر من أي شخص آخر في هذا العصر، وقد اخترناه أملا في ان يعمل توفير الطعام على اتاحة السلام أيضا”.
وإذا كان واحدة من ابرز علامات العار الكبير الذي ارتكبته الولايات المتحدة بتغيب رئيسها باراك اوباما عن قمة روما المخصصة لمواجهة كارثة الجوع في العالم وهي التي تعد أكبر واقوى واغنى دولة في العالم والمتسبب الاول في الجوع فان واحدة من المفارقات الاخرى لذلك الغياب انه جاء بعد وقت قصير من وفاة واحد من اعظم رجالاتها في الجهود والمبادرات التي كرس حياته لها لانقاذ جياع العالم في حين لم تفكر حكومته ولو احترام ذكراه وذكرى المبادئ التي كرس حياته لها بحضور مثل هذه القمة البالغة الاهمية انسانيا وتخليد ذكراه بكلمة أمام هذا المؤتمر.
ومن دون التقليل من الجهود العظيمة والمنجزات التي حققها نورمان بورلوغ فلعل ما لم يدركه انه وفي ظل جرائم الرأسمالية بحق جياع وفقراء العالم والناجمة عن طبيعتها الاستغلالية المتوحشة تغدو جهودها حينذاك اشبه بمن يحرث في البحر وان بحصاد قليل.
أما على صعيد العالم الثالث و من ضمنه عالمنا العربي والاسلامي فلعل ابرز اسم في هذا المضمار البنغالي محمد يونس الذي فاز بجائزة نوبل للسلام عام 2006 لجهوده الكبيرة لمكافحة الفقر في بلاده التي تعد واحدة من افقر دول العالم والتي كللها بمشروعه الكبير الرائد في نجاحه في بتأسيس “بنك جرامين للفقراء” وكان يونس قد وجه انتقادا شديدا للرأسمالية الحالية واعتبرها هي المسؤولة عن الانهيار المالي الذي ضرب العالم بأسره ووصف عمليات المضاربة التي سببت الانهيار اشبه بعمليات في نادي قمار، هذا في الوقت الذي دافع فيه عن آليات السوق وفلسفة السوق الحر وهو من خريجي الولايات المتحدة نفسها، والسؤال لماذا الرأسمالية الامريكية يخرج من تحت نظامها رجال انسانيون يعملون في إطار حتى الفلسفة الرأسمالية ما بوسعهم من مشاريع لمكافحة الجوع ولا يظهر أحد من أمثال هؤلاء في الدول العربية؟ لماذا حتى بنغلاديش الفقيرة انجبت شخصية فذة عالمية كانت رائدة في تأسيس مشروع كبير لمكافحة الفقر والجوع وفي دولة فقيرة ذات موارد مالية محدودة ولم تظهر مثل هذه الشخصية في أي من دولنا العربية؟

صحيفة اخبار الخليج
10 ديسمبر 2009