المنشور

الأزمة العقلية للثورة (1- 4)

يُلاحظ في تاريخ المسلمين المعاصر ترافق الايديولوجية الدينية مع القومية عدة عقود، ثم نرى خفوت القومية، وكذلك ترافقها مع الايديولوجية اليسارية، ثم خفتتْ هذه كذلك.
ما هي الأسباب التي جعلت من الايديولوجية الدينية بهذا الاستمرارية؟ وهل فعلاً تمتلك الخواص المطلقة وأنها هي الخالدة؟
إن الايديولوجيات الدينية ذات تاريخ طويل جداً، وهي ذات مكونات مرنة: السحر، والنضال لتغيير حالة تخلف كبيرة، ثم سيطرة قوى التخلف في مرحلة تالية أكثر تطوراً، واعتماد الغيب، وتعددية الإيحاءات والتفسيرات التي لا تنفد، والارتباط بالمطلق، وبمركزية الشخوص الإعجازية البطولية (الذكورية) غالباً والنسائية نادراً، والدوران حول العبادات كشكلانيةٍ وهوية مركزية للجماعات، والفقهية الجزئية لرفض أو مسايرة الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.. الخ.
تعود هذه المحاور لما قبل تكون الأمم، وتعود للجماعات القبلية الموغلة في القدم، حيث تشكلتْ العقلياتُ الدينية الأولى عبر صراع الأرواح الخيرة والشريرة، ثم حين تكونتْ الأديانُ انتقلتْ هذه المكونات إليها، وحين تشكلت الشعوب والأمم، دخلت تلك المكونات في ثقافتها، فما هو قديم غيبي سحري يهيمن على المكونات العليا، وحتى في تكون قوميات العصر الحديث غربية وشرقية، تدخل تلك المكونات القديمة.
طرحت التياراتُ القومية واليسارية في بادئ وجودها لافتات علمانية وعلمية ورغبات قوية في كنس الخرافات والتخلف، وكانت مستفيدة من رأسمالية خاصة متقدمة في الغرب ومن رأسمالية حكومية في روسيا والصين خاصة، فكان التقدمُ الصناعي العالمي يفرضُ تحولات كبيرة في البنى الاجتماعية المتخلفة، ومن ضرورة انتشار الوعي الموضوعي للظاهرات.
في البدء النهضوي العربي تشكلتْ رأسماليةٌ خاصة ديمقراطية جنينية بفعلِ التجارة وشكلتْ وطنيات عربية دفعتْ عمليةَ الوعي الموضوعي وفي اتساع تحليل الظواهر الفكرية والتراثية خاصة، لكن قواها الإنتاجية تكلستْ بتوجهها للملكيات الزراعية والعقارية والمالية وبالتقصير في الإنتاج الصناعي، فتحالفت مع القوى الدينية المحافظة، وتزاوج ملاك الأرض وتجار المدن.
التوجهات الاشتراكية في الشرق قفزت بالتحولات الاقتصادية إلى مدى أكبر، لكن ملكيات الدول الحكومية الرأسمالية قادت في النهاية للمحافظة والبيروقراطية وتوقف تطور العلوم الاجتماعية خاصة.
استند القوميون واليساريون العرب إلى هذه المنتجات، ونهضتْ بهم إلى حين، لكنهم لم يكونوا كتلك الدول والشعوب فليس لديهم إنتاج مادي يسند عقلياتهم المتفتحة على العلوم، وبهذا فقد أخذتْ الأحزابُ القومية واليسارية العربية تتوقف عن التطور السياسي.
كان إدخال العامة مفيداً في انتشارها وسط الجمهور والجدل مع ظروفه ونضاله، لكن حين تدهورت القيادات فكرياً ولم تتطور فلسفياً وفكرياً، فإن الموروثات الدينية المحافظة التي يحملُها العامةُ أخذتْ تتغلغلُ بقوةٍ أكبر في هذه الأحزاب.
فالعمالُ يتحدثون عن الثورة لكنهم يقمعون نساءهم وبناتهم في البيت، كانت عقلياتُهم الدينية المحافظة أكبر من شعاراتِهم التقدمية، كانوا يعملون لزيادة أجورهم وتغيير ظروفهم الاقتصادية أما الاشتراكية فشعاراتُ حلمٍ اجتماعي. وحين تتصدع (الاشتراكية) قومياً وعالمياً تتبخر حتى تلك الشعارات. ويتم الرجوع إلى القبائل والأسر والمذاهب والقوميات.
ويقفز متعلمون لتوظيف تلك التحولات أو التراجعات لمصلحتهم، وفي الدول الاشتراكية والقومية والدينية كان الضباط هم المستفيدون الكبار فغيروا المسارات لما يلائمهم ويلائم جماعاتهم وطبقاتهم.
كان الارتباط مع الرأسماليات الحكومية الشرقية سواء أكانت ماركسية أم قومية أم بعثية ذا وجهين، وجه الثورة ثم وجه الثورة المضادة. ويغدو التراجع الأكبر في هذا كله نحو الدين، أي لهذا الوعي الغامض المتعدد التفاسير الذي يقومون باستغلاله لمصالحهم، وليس لتسليط الأضواء على أخطائهم، وليس من أجل التضحية العامة، بل يقومون بخداع الناس مرةً أخرى، ويدغدغون مشاعرهم الدينية التي لم تنطفئ، وسرعان ما تتبدل الأسماء والأزياء والشعارات وتظهر الصلوات.
الدينُ يظهرُ مرةً بشكل ثورة، إيقاظية محولة للتاريخ، ومرةً بشكلِ خداع وأفيون. مرةً يظهرُ بشكلِ بطولةٍ وتضحية كبرى، ثم يغدو أداةً للتضليل، يتوجه إليه اللصوصُ يطمسون سرقاتهم، وانهياراتهم الداخلية، ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وكيف يتحول الثوري المكافح إلى لص أو انتهازي؟

صحيفة اخبار الخليج
8 ديسمبر 2009