المنشور

مـحـنــة المفـصـولـيــن…!


قصة قصيرة 


  

مـحـنــة المفـصـولـيــن…! 

ليل التباريح أرخى سدول آلامه وغارت نجوم إضاءاته وران صمت الأزمة على أوتار عصافير
الوطن وشبحت عيون كلاب صيد الدنيا تترصد أوكار الأحلام .
إجتمعت الأسرة حول إبريق شاي الهموم وأقداح الوجل والسكّر المرّ.

لقد عاد أحمد يوسف علي ، مطعونا بسكاكين سوق المال ، حاملا بيد قلبه الجريح ،كتاب فصله من
عمله، فاستقبلته زوجته وإبنه وإبنتاه ، بتصبّر المقهور ، فقبل إسبوعين فقط ، كان قد راجع أحد
الأطباء الإستشاريين في مستشفى الضمان الصحي ( تنزف ذاكرته ما سبق ):-

بادره الطبيب :
– تفضل أسترح..صحتك لا بأس بها، لكن الكشف الطبي وفحوصاتك المختبرية ، تظهر إرتفاع
  ضغط الدم  ونسبة كوليسترول متزايدة وبداية ارتفاع ضعيفة لمعدل سكر الدم ( يترك الملف
  ويرمقه بنظرة عطف)، لا تبتئس .. لا خوف عليك..فقط وفقط دع القلق وأبدأ الحياة..أغلب 
  الأمراض سببها عدم  الراحة النفسية(من أين تأتي الراحة ؟ّ! طبيب يداوي الناس وهو عليل !!).
– دع القلق !! كيف ؟ في بنكنا كبقية البنوك، وشركات القطاع الخاص، شغلنا الشاغل وخبزنا اليومي
  وإنهيارطمأنينة عيشنا وإفلاس مستقبلنا بانهيار وإفلاس  البنوك و تعثّر الشركات، صار واحدنا
  يحدث نفسه  (ترى من سيأتي دوره بالفصل؟ أنت ..هي ..هو..أنا؟) لغط وإشاعات ،
  ثم تقول لي: دع القلق!!

– أنت الآن في عامك الثامن والأربعين، وعليك مواجهة مشاكل الحياة بمسئولية كأغلب الناس، 
  بحيث لا تدعها تسيطر عليك . 

– كلام جميل ..ولكن الواقع(تخرج من فمه حسرة كمنفاخ الحدّاد)

– خذ دواءك..إمتنع عن كل شيء ضار كما أخبرتك سابقا.

– شكرا (ملوّحا بالوداع)

وصل بعد الصيدلية إلى البيت.
فتحت زوجته باب اللهفة وغمرته ببحر مشاعرها، أخذت منه كيس الأدوية، إبنه البكر أيمن، لم يعد من الجامعة، إبنته أحلام طالبة الثانوية وأختها إبتسام طالبة الإعدادية ، هرعن لاستقباله عندما صك  سمعهما لحن صوته المحبب.

تصابره زوجته خلاف ما تضمر:
– يا أبا أيمن.. حبيبي.. حالتك طبيعية ووجهك يفيض بالصحة (ياريت.. يتلألأ دمعها المتورّد
 فوق وجنتي عينيها الساهمتين فيشتعل الغم)

يفزّ من إغفاءة الذكريات، بضرب مطرقة المعضلة.
تنتابه رعشة الذعر من قادم الأيام.

تحاوره ام أيمن بلسان الحنايا:
– تفاءلوا بالخير تجدوه.. لو كنت أشتغل لوفّّر ذلك الكثير..( لو!!) أعلم أن العيش صعب
  ولكنه ليس مستحيلا.. المهم دعنا نحسبها بدقة.. نضغط مصروفاتنا.. نستغني عن الكماليات .

– الكماليات!!.. هل…

– (تقاطعه برفق الحرقة) أقصد التنوّع والترفيه والسفر.

– طيّب..والضروريات؟!

– تأخذ الحيرة بلسان الفؤاد فينطق الصمت)

– ( يتدفق سيل الحساب مؤشرا بسبابته اليمنى على أصابع يده اليسرى مالئا راحته بالنكد) إحسبي معي :
  رسوم ومصاريف أيمن الجامعية..ضروريات حياة الإبنتين ودراستهما وأجرة توصيلهما للمدرسة..
  معاش وإحتياجات الخادمة التي لا يمكن الإستغناء عنها لإصابتك بهشاشة العظام ..إستنزاف السيارة
  لمعاشنا.. قوائم الكهرباء والماء والبلدية والتلفون وإنترنت دراسة الأولاد والصحة والواجبات

 الإجتماعية ، لو لم يكن البيت ملكا لنا لكانت الطامة أكبر.

– ( شفتاها تطبقان دونما حرف)
زوجته تطرق برأسها ويظل يرنو إليها بنظرة السؤال.

يتسلم رسائل هاتفية متشابهة بالمضمون ، من جمعيته السياسية والإتحاد العام لنقابات العمال ونقابته:
“ندعوكم للتضامن مع إخوتكم العمال المفصولين بالإشتراك في المسيرة الجماهيرية التي ستنطلق
من أمام البنك المركزي إلى مقر الإتحاد العام لنقابات العمال مساء غد  س 5 “.

يتصل المفصولون والمتضامنون ببعضهم تحضيرا للمسيرة..ينطلقون إلى الزمكان.

بعد إعلان المطالب ، يرتفع صوت مبحوح إستغرقته الشعارات:


يـشقى بـنـوها والنعـيـم لـغيـرهم          فـكـأنهـا والحـال عـيـن عــذاري

تقول مشاركة بدا عليها الغضب :

– إشتغلنا بتعب ، حصلنا على النزر اليسير من بعض أرباحهم ، واليوم يرمون بنا وبعوائلنا إلى الشارع .

يعلق أحدهم :
– الجوع في الوطن غربة.

يصرخ آخر:
– قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق.

قال صوت متبرّم بلهجة المراقب:
– تعالوا..جئنا..ما فائدة المسيرات والصراخ؟..قولوا ما شئتم ونفعل ما نريد..أنظروا إلى قلّة الناصر . 

 أجابه قلب مفعم بالأمل:
– لا تستوحشوا من طريق الحق لقلة سالكيه.. راكم الكمّ ليتبدل الحال.

– ( ينظر إليه شزرا) فلسفة !!

– نعم ..إنها فلسفة الحياة.

تثنّي مشاركة :
– يجب المثابرة دون كلل لإنتزاع الحقوق


ومـا نـيـل الـمـطـالـب بالـتـمـنّي        ولــكـن تــؤخــذ الـدنــيـا غـلابـا

قالت سيدة أخرى:
– سنبذل قصارى جهودنا وننتظر حلول المطالبة و المغالبة.  

ينفضّ الجمع بعد المسيرة .
 

 
عبد الصمد الليث
 2009/10/ 20