المنشور

خيبة التوهمات في‮ ‬إزاحة التكنولوجيا للأيديولوجيا

قيل في‮ ‬خضم الجدل العالمي‮ ‬الذي‮ ‬اندلع في‮ ‬أعقاب التحولات الكبرى التي‮ ‬عصفت بالعالم في‮ ‬العقد الأخير من الألفية الثانية ومنها على وجه خاص انهيار الاتحاد السوفييتي‮ ‬ومنظومته الاشتراكية في‮ ‬أوروبا الشرقية‮ ‬‭-‬‮ ‬قيل‮ ‬يومها‮ ‘‬إن التكنولوجيا هزمت الأيديولوجيا‮’.‬
المقولة كان لها وقعها الموسيقي‮ ‬على الأذن المتلقية بسبب سجعيتها الجميلة‮ (‬وهذا بالمناسبة لا‮ ‬يقتصر على اللغة العربية وإنما اللغة الإنجليزية والروسية وغيرها من اللغات العالمية الرئيسية،‮ ‬بسبب عالمية الكلمتين أيديولوجيا وتكنولوجيا‮).‬
إنما شتان ما بين الكلمتين،‮ ‬معنىً‮ ‬ومدلولات،‮ ‬وإن استخدامهما على ذلكم النحو البلاغي‮ ‬الصرف‮ ‬ينطوي‮ ‬على خلط أوراق متعسف مفضي‮ ‬لاستنتاجات خاطئة وأحكام مغلوطة ليس لها أساس من الواقع أو المنطق الذي‮ ‬أسس له الفيلسوف الإغريقي‮ ‬العظيم أرسطو‮.‬
التكنولوجيا منتج‮ (‬بفتح التاء‮) ‬مادي‮ ‬تحول مع التقدم التكنولوجي،‮ ‬شأنه شأن العلم‮ (‬وهذا الأخير بفضل التقدم العلمي‮) ‬إلى مكون أساسي‮ ‬من مكونات قوى الإنتاج التي‮ ‬تشمل قوة العمل ووسائل العمل‮ (‬أدوات ومواد العمل‮).‬
أما الأيديولوجيا فهي‮ ‬مذهب أو عقيدة‮ ‬يعود تاريخ ظهورها إلى البدايات الأولى لظهور الملكية الخاصة والمصلحة الخاصة في‮ ‬المجتمعات البشرية الأولى التي‮ ‬شهدت أول تقسيم رئيسي‮ ‬للعمل ببروز قيمة الأرض وانفصال مهنة زراعتها‮ (‬بعد الاستحواذ عليها من قبل القبائل الأشوس‮) ‬عن مهنة رعي‮ ‬الماشية،‮ ‬حيث أطلق هذا التحول النوعي‮ ‬في‮ ‬نمط حياة الإنسان الأول،‮ ‬العنان لتطور الملكية الخاصة للماشية ولحصاد الأرض وللعاملين في‮ ‬استصلاحها وزراعتها الذين أضحوا عبيداً‮ ‬لدى ملاَّك الأراضي‮.‬
بهذا المعنى فإن من السذاجة القول أن عصر الأيديولوجيا قد ولّى في‮ ‬حضرة التكنولوجيا‮. ‬فهذه التكنولوجيا وبراءات اختراعها وتراخيص إنتاجها في‮ ‬نهاية الأمر لها ملاّكها الحصريين الذين لا‮ ‬يساومون أبداً‮ ‬على حقوق ملكيتهم فيها‮.‬
ربما نكون قد أطنبنا نظرياً‮ ‬في‮ ‬الحديث عن الأيديولوجيا،‮ ‬إنما ارتأينا أن هذا كان ضرورياً‮ ‬قبل الولوج في‮ ‬الموضوع الذي‮ ‬نحن بصدده،‮ ‬وهو الخطاب الأيديولوجي‮ ‬اليميني‮ ‬الفاقع الذي‮ ‬ألقاه رئيس حزب المحافظين البريطاني‮ ‬ديفيد كاميرون‮ ‬يوم الخميس‮ ‬8‮ ‬أكتوبر الجاري‮ ‬أمام مؤتمر الحزب الذي‮ ‬دشن عملياً‮ ‬انطلاقة حملته الانتخابية للانتخابات البرلمانية التي‮ ‬ستجرى في‮ ‬شهر‮ ‬يناير القادم‮.‬
فحزب المحافظين الذي‮ ‬بقي‮ ‬خارج السلطة لمدة سنوات أصبح اليوم في‮ ‬وضع انتخابي‮ ‬مريح وفرته أخطاء وعثرات حزب العمال الحاكم التي‮ ‬لا‮ ‬يمكن تفاديها في‮ ‬ظل هذه الفترة الطويلة من العمل الحكومي‮ ‬الحافل بكافة أشكال التحديات الداخلية والخارجية‮. ‬بيد أن هذا الوضع بحد ذاته لا‮ ‬يكفي‮ ‬ولا‮ ‬يوفر لحزب المحافظين وسادة انتخابية مريحة ما لم‮ ‬يرفده الحزب ببرنامج إنقاذي‮ ‬مغاير لتوجهات حزب العمال لإخراج بريطانيا من أزمتها المالية والاقتصادية،‮ ‬حيث تواجه البلاد عجزاً‮ ‬في‮ ‬موازنتها‮ ‬غير مسبوق منذ‮ ‬27‮ ‬عاماً‮. ‬ولأن المحافظين ظلوا‮ ‬يجمعون النقاط على حساب حزب العمال بالاستفادة من بعض النتائج السلبية لعمل حكومة العمال وليس من أي‮ ‬شيء آخر،‮ ‬وهو الأمر الذي‮ ‬وضع المحافظين مؤخراً‮ ‬في‮ ‬حرج شديد أمام الناخبين ودلل الفارق بينهم وبين العمال في‮ ‬استطلاعات الرأي‮ ‬إلى تسع نقاط فقط‮ (‬40٪‮ ‬للمحافظين و31٪‮ ‬للعمال‮). ‬فكان أن أعلن الحزب من خلال رئيسه ديفيد كاميرون في‮ ‬مؤتمر الحزب الأخير،‮ ‬برنامجه الذي‮ ‬سيخوض على أساسه المعركة الانتخابية‮.‬
وهو خطاب أعاد للأيديولوجيا‮ ‬‭-‬‮ ‬ويا للمفارقة على‮ ‬يد اليمين‮ ‬‭-‬‮ ‬اعتبارها بعد أن كان هذا اليمين نفسه قد تنكر لها ولمسوغ‮ ‬وجودها في‮ ‬عالم الثورات الإلكترونية‮. ‬فقد حفل الخطاب بالخطوط العامة والعريضة لأيديولوجيا اليمين،‮ ‬بل واليمين المتشدد،‮ ‬في‮ ‬التعاطي‮ ‬مع البعد الاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬لبناء وإدارة المجتمعات‮. ‬فقد أعلن كاميرون بأنه،‮ ‬في‮ ‬حال انتخابه رئيساً‮ ‬للحكومة البريطانية سوف‮ ‬يعمل على تمزيق الحكومة الكبيرة التي‮ ‬أنشأتها حكومة العمال وأنه سوف‮ ‬يستبدلها بمجتمع أقوى‮ (‬أقوى من الحكومة‮) ‬قادر على تحمل مسؤوليته والاطلاع بدوره،‮ ‬والعمل على تقوية العائلة والمجتمعات المحلية‮.‬
ولأنه لا‮ ‬يستطيع تحقيق اختراق لافت على صعيد استعادة بريطانيا ومجتمعها لتوازنهما الاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬سوى بالمزايدة الطنانة،‮ ‬إنما الفارغة،‮ ‬على حزب العمال الحاكم،‮ ‬فقد‮ ‘‬بشّر‮’ ‬البريطانيين بأن عليهم أن‮ ‬يكونوا مستعدين لتقديم تضحيات من أجل خفض عجز الموازنة‮.‬
وقد استدعت هذه الوعود التي‮ ‬قدمها ديفيد كاميرون،‮ ‬والتي‮ ‬تعيد إلى الأذهان الروشتة التاتشرية،‮ ‬ردود فعل مضادة من جانب حزب العمال والحزب الليبرالي‮ ‬الديمقراطي‮ ‬اللذين حذرا من نوايا تحلل الدولة من مسؤوليتها الحمائية لعموم البريطانيين وتركهم نهباً‮ ‬لرأس المال ولتتدبر المؤسسات الخيرية أمر مساعدتهم‮.‬
أولم تقل تاتشر بأنه‮ ‘‬ليس هناك شيء اسمه المجتمع‮’‬؟‮!‬
إنها،‮ ‬كما ترون،‮ ‬ذات الوصفة التاتشرية التي‮ ‬صعدت بها مارغريت تاتشر إلى سدة الحكم في‮ ‬10‮ ‬دواننغ‮ ‬ستريت في‮ ‬عام‮ ‬1979‮ ‬والتي‮ ‬لم‮ ‬يستطع البريطانيون التخلص من وطأة آثارها السلبية على الخريطة الطبقية للمجتمع البريطاني‮ ‬المتجسد تخصيصاً‮ ‬في‮ ‬توسيع الفجوة بين الفقراء والأثرياء،‮ ‬إلا بعد أن‮ ‬غيروا وجهة أصواتهم الاقتراعية لصالح برنامج التوازن الاقتصادي‮ ‬والاجتماعي‮ ‬لحزب العمال في‮ ‬عام‮ ‬1997‮ ‬ليضعوا حداً‮ ‬لحكم حزب المحافظين ولسياساتهم في‮ ‬تهميش دور الدولة وانسحابها‮ ‬غير المنظم من الاقتصاد واستقالتها من وظيفتها المجتمعية‮.‬
واليوم‮ ‬يعود المحافظون بأيديولوجيتهم‮ ‘‬السوقية‮’ (‬نسبة إلى السوق‮) ‬المتطرفة وذلك في‮ ‬عملية إعادة إنتاج واضحة للمقاربة التاتشرية كما قلنا‮.‬
والمفارقة اللافتة أن هذه‮ ‘‬الإعادة‮’ ‬تأتي‮ ‬في‮ ‬وقت تتعرض فيه نظرية‮ ‘‬إباحية السوق‮’ ‬على النمط الـ‮ ‘‬نيو ليبراليزم‮’ ‬المغرقة في‮ ‬تطرفها‮ ‘‬الإباحي‮ ‬السوقي‮’ ‬لمساءلات وانتقادات واسعة النطاق في‮ ‬الغرب كما في‮ ‬الشرق على خلفية الدمار الهائل الذي‮ ‬خلفته تطبيقاتها على الاقتصادات الوطنية والاقتصاد العالمي‮ ‬ككل نتيجة للأزمة المالية/الاقتصادية التي‮ ‬تفجرت على شكل فقاعات كبيرة هزت أسواق العقار والمال والنظام المصرفي‮!‬
ماذا‮ ‬يعني‮ ‬هذا؟
هذا‮ ‬يعني‮ ‬إنه حتى في‮ ‬أصعب وأسوأ الظروف التي‮ ‬يمكن أن توضع فيها الأيديولوجيا كالظرف بالغ‮ ‬السوء الذي‮ ‬وجدت الأيديولوجيا الرأسمالية بشقيها الليبرالي‮ ‬والـ نيوليبرالي،‮ ‬نفسها فيه إبان الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي‮ ‬لازالت تلقي‮ ‬بظلالها وتداعياتها على الوضع الاقتصادي‮ ‬العالمي‮ ‬العام،‮ ‬فإنها لا تنفك تغالب وتعاند وتجادل بصحة مذهب معتنقيها،‮ ‬مفندة بذلك كل توهمات الغارقين في‮ ‬عليائهم التنظيري‮ ‬الزاعمة بنهاية الأيديولوجيا عبر‮ ‘‬نهاية التاريخ‮’ ‬وتحديداً‮ ‬تاريخ الأيديولوجيات‮ ‘‬الأخرى‮’ ‬المغايرة للأيديولوجيا الرأسمالية.
 
صحيفة الوطن
5 ديسمبر 2009