المنشور

الآثار الاقتصادية للتجنيس السياسي في البحرين

فرضت معضلة التجنيس السياسي في البحرين نفسها بقوة على واجهة الأحداث طيلة أكثر من ثماني  سنوات أعقبت التصويت على ميثاق العمل الوطني في العام 2001، فقد كشفت تداعيات قضية التجنيس ولا زالت الكثير من الانعكاسات السلبية على الكثير من الأوضاع في مملكة البحرين، ولعلنا نجد  في التصريحات الأخيرة لسعادة وزير الداخلية أفضل تعبير لها، وهو الرجل الأول المعني برسم السياسات الأمنية في البلاد والتي دعا من خلالها في شهر سبتمبر الماضي  من هذا العام إلى ضرورة مراجعة سياسات منح الجنسية وذلك لأسباب سماها بالسياسية والاقتصادية  والأمنية، مما يؤشر بوضوح إلى ما أوصلتنا إليه تلك السياسات من مخاطر باتت تضرب بقوة في جدار أمننا الوطني من خلال مكوناته السياسية والاقتصادية والأمنية، والتي تشكل مظلة الأمن المجتمعي في إطارها العام والشامل.  كما مثلت سياسات التجنيس المتبعة طيلة السنوات الثماني المنقضية  هاجسا مقلقا  بامتياز للكثير من مقومات البناء المجتمعي السليم في المجتمع البحريني،علاوة على أنها أضرّت كثيرا بعوامل الثقة التي أسس لها ميثاق العمل الوطني الذي لا يزال بمعية دستور البلاد يمثلان مرجعا لخيارات الوطن المستقبلية في التصالح والوئام والثقة بين الحاكم والمحكوم، بما يمثلانه من ثوابت يجمع عليها الجميع من دون استثناء، والتي يمكن تكثيفها  في العودة إلى معايير أساسية محددة لعل من بينها معايير المواطنة والحقوق والمسئوليات المفصلة بشكل واضح وجلي في كليهما. 

 فالقضية  إذا لم تكن مجرد  مزايدات  تتحدث عنها قوى المعارضة السياسية أو مجرد مماحكات فارغة لا  تستند إلى مضامين وبراهين كما تذهب إلى ذلك ردود الأفعال والتصريحات الرسمية التي تعجز عن مجرد الإقناع بأن ما تقوم به من سياسات حيال قضية التجنيس هي فعل وطني أو حتى قانوني، بقدر ما تسعى من خلاله بعض الأطراف الرسمية لإدامة تلك السياسات والاستفادة من الوقت والظروف معا لخدمة هذا التوجه الذي يظل مرفوضا من السواد الأعظم من الشعب الذي بات مقتنعا أكثر من أي وقت مضى بأن ما يجري من سياسات من هذا القبيل إنما هو على حساب مصالحه الأساسية بالدرجة الأولى ومستقبل الوطن  كذلك.  

لقد التقت تصريحات سعادة وزير الداخلية الأخيرة حول ضرورة  إعادة النظر في سياسات التجنيس، وما توصل إليه الجانب الرسمي من حقائق على الأرض حول قضية التجنيس مع ما دأبت على ترديده قوى المعارضة السياسية الرافضة لتلك السياسات طيلة السنوات الثماني الماضية، وهي سنوات من المفترض أن تكون سنوات إصلاح حقيقي بحسب ما توافقت عليه الإرادة الشعبية عند التصديق الشعبي الجارف على ميثاق العمل الوطني  بنسبة هي بالفعل أفضل  إفصاح  شعبي عن مكنونات هذا الشعب بالعيش بوئام  ومحبة وانسجام بين القيادة والشعب وبين الشعب بمختلف مكوناته وطوائفه وأعراقه وإثنياته.  وفي السياق نفسه ترى قوى المعارضة السياسية أن التصريحات اللاحقة لوزير الداخلية  في النصف الأول من شهر أكتوبر الماضي والتي قسّم من خلالها من تم تجنيسهم بحسب انتماءاتهم المذهبية وليس على أساس ما حدده الدستور وقانون الجنسية البحريني من ضوابط واشتراطات، وما تعنيه تلك التصريحات من  مخاطر حقيقية حول دواعي التقسيم المذهبي  والطائفي على لحمة وتماسك النسيج الاجتماعي في البحرين، فان تلك التوجهات الرسمية باتت تتطلب ضرورة إجراء مراجعة حقيقية ومخلصة، حتى لا  تربط إجراءات منح الجنسية ربطا ميكانيكيا  بنزعات طأفنة المجتمع  والشأن العام لصالح حسابات سياسية أصبحت حديث الشارع البحريني، ليتم معها تعمد خلط الأوراق وتغييب الحقائق التاريخية.    وبحسب طبيعة سياسات التجنيس السياسي الجارية في الوقت الراهن وما تحمله من مضامين لا تتسق أبدا مع المصالح الوطنية العليا للبلاد، نظرا لما تمثله من مخاطر حقيقية على الهوية الوطنية وقوة النسيج الاجتماعي والمصالح الحيوية لكل فئات الشعب دون استثناء، فلم يعد خافيا ما أفرزته سياسات التجنيس من مخاطر مباشرة وغير مباشرة على الكثير من وجوه الحياة وجملة من التعقيدات الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية والأمنية، التي لا يمكن التنبؤ بتداعياتها المريرة مستقبلا، وها  هي قد بدأت معالمها في البروز في مختلف مدن وقرى البحرين وأحياءها التي بدأت تعج بالمجنسين من مختلف الملل والقوميات في ظل الغياب الواضح للالتزام القانوني بما جاء في الدستور وفي قانون الجنسية البحريني، حيث تؤكد كافة الشواهد على انه  قد تم تجاوز الكثير من الضوابط والاشتراطات توطئة لحسابات سياسية وانتخابية ضيقة، دون التفكير بوعي ووطنية لما ستقود إليه تلك السياسات في الوقت الراهن وفي المستقبل من مصاعب يتعذر الخروج منها، وقد حتّمت  تلك السياسات على الطرفين الرسمي والشعبي ضرورة التعاطي مع جملة من المتغيرات المرتبطة  بسيرورة الحياة اليومية للمواطن البحريني اقتصاديا واجتماعيا وأمنيا أيضا.   فبالإضافة إلى زيادة معدلات الجريمة ونوعية الجرائم المعروضة أمام المحاكم والتي فرضت على السلطات الأمنية مؤخرا اللجوء إلى نقل بعض فئات المجنسين من مواقع سكناهم إلى مواقع أخرى حفاظا على السلم الاجتماعي جراء تفشي معدلات الجريمة في مناطق بعينها مكتظة بالمجنسين، وما ارتبط بها بشكل مباشر أو غير مباشر محليا أو على شكل تداعيات إقليمية، لتصل شظاياها لبعض من دول الجوار، والتي تؤشر بوضوح إلى سلسلة من المتاعب التي لم تجد لها حتى الآن تعاملا موضوعيا  وعاقلا يضع الأمور في نصابها، بدلا من انفلات عقالها وما يعنيه من جموح خطير  لسنا على استعداد لتحمل تبعاته بكل تأكيد.

لقد فرضت تلك السياسات مجموعة من التحديات الاقتصادية أمام السلطات ذاتها وأمام الناس الذين بدأوا منذ فترة ليست بالقصيرة في تلمس انعكاساتها السلبية، خاصة أمام ما أملته السياسات الاقتصادية والنهج الذي درجت على رسمه السلطات منذ زمن في التعاطي مع الشأن المعيشي اليومي للمواطن، فالبحرين التي باتت تجاهد منذ سنوات لتلبية متطلبات الزيادة المضطردة في عدد السكان وما تمثله من ضغوط مستمرة على جملة من الخدمات التي تقدمها الدولة لمواطنيها بحسب ما تفرضه شروط الاقتصاد ألريعي من التزامات دستورية على السلطات، وفي ظل تناقص الموارد ومحدوديتها وتقلص الموازنات المرصودة للخدمات عاما بعد عام، وما تتيحة أسعار النفط وحجم مبيعاته من فرص أمام عجلة الاقتصاد الوطني، تظل محل صعود وهبوط باستمرار، وهي السلعة الأساسية التي يعتمد على مواردها اقتصادنا الوطني بنسبة تفوق 75% من الدخل القومي.                     

       فقد بلغت نسبة الزيادة في عدد السكان بحسب ما أعلنه  الجانب الرسمي  في شهر سبتمبر/أيلول من العام 2007 نسبة تفوق 5و8% وهي نسبة لا تتناسب مع معدلات النمو الاقتصادي بالدرجة الأولى، وقد بقيت نسب النمو السكاني في ما مضى مراوحة  بين  3و2-7و2% ، ولم نجد  بعد ذلك مبررا  رسميا  لتلك القفزة الكبيرة في معدل النمو السكاني هذا سوى التعلل بنسبة زيادة أعداد الأجانب نتيجة الطفرة التنموية! وهو أمر لا تجد فيه قوى المعارضة السياسية أي مسوغ موضوعي مقبول لتلك القفزة الهائلة في عدد السكان، والتي حدثت خلال فترة لا تتجاوز العامين، حيث كانت 743 ألفا  في العام 2006 لتصل مع نهاية سبتمبر 2007 إلى ما يفوق المليون نسمة، وهي زيادة لا يمكن مقاربتها بما أعلنه لاحقا سعادة وزير الداخلية في سياق رده على سؤال نيابي في نوفمبر / تشرين 2008  حول أعداد من تم تجنيسهم في الفترة بين 2001 حتى 2008 والتي أكد أنها بلغت  ما مجموعه 14667 فردا فقط!      
                                                                
  كما أن تلك الزيادة الكبير جدا في عدد السكان في بلد هو في الأصل محدود الموارد والمساحات  والأراضي والميزانيات وتعانى بناه التحتية من تقادم  مستمر، وتعجز موازناته العامة عن تلبية جزء مهم من احتياجات مواطنيه المعيشية من إسكان وصحة وتعليم وطرق ومجاري وكهرباء وماء وغيرها، خاصة بعد أن خفضت ميزانية المشاريع والطرق إلى الحد الأدنى لتصل  300 مليون دينار عن كل عام في موازنة 2009-2010 والتي تآكلت عنوة لصالح تضخم غير مسبوق لميزانيات الدفاع والأمن، حيث يبقى تسارع وتيرة التجنيس أحد الأسباب الرئيسية لذلك وبشكل جلي في مصاريف الباب الأول في وزارات الداخلية والدفاع والحرس الوطني والأمن الوطني، وذلك بالنظر إلى أن الغالبية العظمى ممن يتم تجنيسهم تقدم لهم فرص عمل في تلك المرافق الأمنية، وهي كلفة اقتصادية مضاعفة للدولة في مرافق غير منتجة أصلا، على الرغم من أهميتها الاستثنائية، فهي وبحسب طبيعة الأعداد الكبيرة من المجنسين العاملين فيها تعتبر احد مواقع استنزاف الموارد الوطنية  عبر الأجور والامتيازات وكذلك عبر تحويلاتهم المالية نحو الخارج والتي زادت تبعا لها حجم الأموال المحوّلة للخارج خلال السنوات الأخيرة، بحسب تقارير رسمية صادرة عن بنك البحرين المركزي خلال السنوات الأخيرة، وما يعنيه ذلك من تناقص في السيولة والعملات الصعبة،هذا بالإضافة  إلى ما تقوم به الدولة من مشاريع مكلفة لاستيعاب تلك الأعداد الضخمة من المجنسين من حيث  بناء المساكن والمدن والمرافق وتهيئة للأراضي الشحيحة أصلا، لصالح بناء أحياء سكنية كاملة ومدن معزولة لاستيعاب تلك الأعداد مجهولة العدد من المجنسين، والتي تبقى مرئية بوضوح في العديد من مظاهر الحياة اليومية من شوارع وطرق ومدارس ومستشفيات وجامعات وخدمات، والتي أصبحت عاجزة بالفعل عن استيعاب المزيد ما لم  يتوقف طوفان التجنيس السياسي الذي تتم المراهنة عليه لصالح حسابات سياسية واضحة دون النظر إلى كل تلك الإفرازات  الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة.        
                                                                   
ومع بروز تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية وما فرضته على البحرين من محاولة للتأقلم مع الأوضاع المالية الصعبة التي تسببت فيها تراجعات أسعار النفط بداية إلى أقل من أربعين دولارا للبرميل أي بأقل مما هو مرصود لها في موازنتي الدولة للعامين 2007- 2008 والتي عاودت الانتعاش قليلا مؤخرا لتصل 70 دولارا للبرميل في المعدل، فقد تقلصت قدرة الوزارات المعنية على القيام بالتزاماتها أمام حزمة المشاريع المنتظر تنفيذها، وتراجع الحديث عن بناء المدينة الشمالية التي يفترض أن تستوعب في مراحلها الأولى 13000 وحدة سكنية وتم الاكتفاء فقط بردم البحر المخصص لها مما وفرته الموازنة السابقة، هذا في الوقت الذي ازدادت فيه الطلبات الإسكانية لتصل إلى أكثر من خمسين ألف طلب بعد أن كانت في حدود 40 ألفاً ، ويتوقع بلوغها أكثر من 80 ألفا خلال الخمس سنوات القادمة، كما تقلصت قدرة  الحكومة على بناء مدارس ومراكز صحية ومستشفيات ومرافق جديدة  تحت الضغط  المستمر على الخدمات، وما نتج  بعد ذلك من توزيع  غير عادل للموازنات ومتطلبات عملية التنمية الشاملة، حتى أن سمو رئيس الوزراء كان قد وجه حكومته في النصف الأول من شهر أكتوبر الماضي بسرعة تجهيز مستشفى الملك حمد في المحرق لتفادي مزيد من الضغط الواضح على الخدمات الصحية التي يقدمها المستشفى الرئيسي الوحيد منذ  عهد الحماية البريطانية وهو مركز السلمانية الطبي ، وتشهد  كافة التقارير على تسبب ذلك في تراجع ملحوظ في الخدمات الصحية وصل إلى حد وقوع عدد من الوفيات وشح في الأسرة وقلة حيلة الميزانيات المرصودة للأدوية والأجهزة العلاجية والصحية، كما تم رفض المناشدات النيابية الأخيرة بفتح  المستشفي العسكري أمام عموم المواطنين بغرض استيعاب الطلب المتزايد على الخدمات الصحية.  

 وتعمل الحكومة خلال الفترة الحالية على تدبير قرض يبلغ 250 مليون دينارا عبر البنوك المحلية والأجنبية لتسهيل وتلبية بناء المزيد من الوحدات الإسكانية، حيث يعني الاتجاه المستمر للاستدانة  زيادة حجم الدين العام الذي بقي لسنوات في حدود نسبه المقبولة عالميا، كما يعني أيضا زيادة خدمة الدين على كاهل الموازنة العامة للدولة، والتي ستفضي حتما لتأجيل الكثير من المشاريع الخدمية الحيوية للمواطنين في المستقبل القريب.   

          ها هي وزارة الإسكان لا زالت تفكر في إمكانية استكمال توزيع الطلبات الإسكانية لعامي 1992-1993، وأن  الميزانية المتوقعة لمشروع بدل الإسكان الخاص بمن تجاوزت سنوات انتظارهم  لخدماتها الإسكانية  أكثر من خمس سنوات سوف تبلغ مع حلول العام 2014  إلى ما يزيد على 55 مليون دينار، حيث يعزو وزير الإسكان ذلك بحسب  تصريحاته الأخيرة إلى  زيادة التركيبة الديموغرافية للبحرين،  مما يدلل بصورة واضحة إلى أن أحد أهم المصاعب التي تزيد من صعوبة الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين هو الزيادة السكانية المضطردة والتي تنسب في جزء منها إلى الأعداد المضافة من المجنسين كل عام لنسب النمو الطبيعية والتي تحتاج إلى السكن والعلاج والتعليم والتعليم الجامعي وفرص العمل أيضا.   كما أن نجاح سياسات التوظيف طيلة السنوات الأربع الماضية وما دعمها من مشاريع رديفة مثل الـتأمين ضد التعطل وقبله المشروع الوطني للتوظيف وصولا إلى ما أعلن في النصف الثاني من أكتوبر الماضي من إستراتيجية لتوظيف الخريجين الجامعيين، تبقى جهودا محمودة، لكنها في ظل الزيادة المفرطة في عدد السكان وزيادة جرعات التجنيس تبقى محل شك في قدرتها على الإبقاء على حجم البطالة عند الحدود المقبولة.  
                                                            
إسقاطا على ما سبق من تحديات ومصاعب جمة بدت معالمها واضحة أمام الجميع، يمكن القول أن ضرورة التأسيس لفهم موضوعي  رافض لسياسات  التجنيس المستمرة دون توقف بات أمرا ملحا وبشدة، وهذا هو بالضبط ما طالبت به وأفردت له مختلف قوى المعارضة السياسية فرادى ومجتمعين كثير من مساحات النقاش والمطالبات والعرائض التي لم تتوقف حتى الآن، والتي فضحت من خلالها تلك السياسات ومراميها ومخاطرها المحدقة بهيبة الوطن ومصالحه،  وبات الأمر برمته يفرض على الجميع من حكومة وقوى سياسية ومجتمعية  وضع المصالح الوطنية أمامهم والتوجه لطاولة حوار موضوعي هادف  يسعى لخلق حالة توافق مجتمعية  تضع حدا لاستمرار تلك السياسات وما تفرزه من تداعيات اقتصادية ومعيشية واجتماعية وأمنية، تبقى حلولها ممكنة الآن، لكنها  ستكون  وخيمة ومتعذرة فيما لو قيظ لحالة التجاهل الراهنة التي تبديها الحكومة تجاه هذه القضية من الاستمرار والتي ستعني مزيدا من التحديات والمصاعب أمام الدولة والمجتمع وستضر حتما بوحدة وتلاحم نسيجنا الوطني وبتعميق عوامل انعدام الثقة القائمة أصلا.