المنشور

التناقض الرئيسي في الرأسمالية الحكومية

يختلف التناقض الرئيسي في الرأسمالية الغربية عنها في الرأسمالية الحكومية الشرقية، فحسب ماركس فإن التناقض الرئيسي في الرأسمالية الغربية يبدأ من البضاعة، من هذه الجرثومة الصغيرة في البناء الكبير، بين العملِ الملموسِ والعملِ المجرد، بين البضاعةِ كمنجزٍ داخل المصنع وبين البضاعةِ كسلعةٍ توجهُ للسوق، بين القيمةِ والقيمةِ التبادليةِ، بين الأجرِ والربح.
لكن التناقضَ في الرأسماليةِ الشرقيةِ يبدأُ من أكبرِ جهازٍ سياسي – اقتصادي متداخلٍ، وهو جهازُ الدولة، ففي تعبيرِ “الرأسمالية الحكومية” يتمظهرُ هذا التناقضُ في شكلهِ الأولي.
الرأسماليةُ لا تصيرُ حكوميةً بادئِ ذي بدءٍ، الرأسماليةُ هي خاصة، هي ملكيةُ أفرادٍ، فكيف يصير رأسُ المال غير ملكٍ لأفراد؟
في خروجِ الرأسماليةِ من الغرب لتصديرَ ذاتِها إلى العالم، تقومُ بتعميمِ طريقةِ إنتاجِها على البشرية، فتغدو إجباريةً مفروضةً على البشر الآخرين الذين لم يصلوا إلى هذا المستوى فتدخلُهم في أعاصيرِها، فيصيرُ الشرقُ رأسمالياً لكن حسبَ بناه الاجتماعية، حسب قوانين تطوره الخاصة، وبناهُ اعتمدتْ دائماً على أداةِ الدولة كأهمِ وسيلةٍ في صنعِ التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية عبر التاريخ، فالعبوديةُ الشرقيةُ كانت عبوديةً عامة، والإقطاعُ كان يقومُ على ملكيةِ الأراضي الخصبة العامة الخاضعة للدول من دون أن تتخلص كلياً من العبودية، وبهذا فإن الرأسماليةَ الشرقية في تكونِها غدتْ بالضرورة من صياغاتِ الدولِ الغربية والشرقية المتصارعةِ على السيادة عليها، والمتداخلة في تشكيلِ بُناها الاقتصادية – السياسية، حسب ظروف كلِ بلدٍ شرقي.
ليس هدفُ الرأسمالياتِ الحكومية الشرقية تشكيلَ التنميةِ والازدهار والتطور، بل هدفُها هو أن تشكلَ رأسمالياتٍ خاصة!
في هذا التناقض تكمنُ الحركةُ الصراعيةُ المشكلةُ لتواريخِ الدولِ الشرقية، ويبدو التناقضُ أشدّ حدةً حين تتمظهرُ الدولُ الاشتراكية في الشرق عبر قولٍ ايديولوجي بأنها جاءتْ لإزالةِ الرأسمالية وسحقها من الوجود، لكنها تشكلُ المقاربةَ الأكثر تطوراً للرأسمالية الغربية الخاصة!
إنها بعدُ لم تتطابقْ معها، لأن سيرورة تطورها مختلفة، لكن رأس المال الخاص ظهرَ من داخل القطاع العام، وهيمن عليه، وكل الحيثياتِ الأخرى عن المؤامرات والأخطاء ليست سوى قراءات شبحية للتطور الرأسمالي الغائر، حين يغدو الرأسمالُ العامُ مُداراً ببيروقراطية تقطعُ أوصالَ عموميته على مر العقود وتخرجُ العفريتَ من داخل الزجاجة الاشتراكية.
في الدولِ الشرقية الأخرى الشائعة تصيرُ المقاربةُ مع الرأسمالية الغربية أقل من ذلك، خاصةً أنها تشكلتْ عبر إراداتٍ متصارعةٍ غربيةٍ شرقية معاً على الملكيات العامة. لكن في أغلبها تم تسليم نصف أو ثلث الدخول للطبقة الحاكمة، ثم تسلمتْ كذلك إدارة ما تبقى من الملكية العامة. وسواءً تجلى ذلك في حزب ثوري يحكم أم في أسرة أم في قبيلة أم في فرد، فإن الدخولَ المقتطعةَ بالقانون الأساسي، وهو القانون الذي يستحيلُ أن يكونَ مماثلاً للقانون الأساسي العام في الغرب الذي يفصل السلطة عن الثروة دستورياً، تبقى هي ركيزةَ الطبقةِ الحاكمة وأساس توسعِها كذلك في الملكية العامة الباقية المقروضةِ بأسنانِ هذه القطط السمان.
فهي إذ تتوسعُ بملكياتِها الخاصة عبر شتى ألوان الاستثمار، تتوسعُ كذلك في تلك الملكية العامة بشتى أشكال الإجراءات الحكومية والتوظيفات والخطط الاقتصادية، فتجعلُ من الملكيةِ الحكومية حصالةً وأداةَ تعبيدٍ لطرقِها ولنمو شركاتها وجلب المعلومات الاقتصادية والسياسية لاستثماراتها وشركاتها في الخارج وأدوات مساحتها وكهربة أرضها من أجل نمو أعمالها الخاصة.
ليس فعل الرأسمالية الحكومية هي فعلُ دولةِ المساواة والاشتراكية والديمقراطية والتنمية والاستقلال والإسلام والعروبة والوطن الواحد والحكومة الشعبية والانقاذ، فكلُ هذه لافتات ايديولوجية خادعة، فالرأسماليةُ الحكوميةُ تهدفُ في النهاية إلى ظهورِ طبقةٍ رأسمالية حاكمة على أنقاض التجارب السابقة المفوهة بشتى العبارات.
لكن أن يأتي هذا الظهور بالسلاسة والحب هو أمرٌ غير ممكن، لأن الملكية الحكومية تعني الأمة المالكة التي تكتشفُ فجأة إفلاسَها، وأنها غيرُ مالكةٍ لأملاكِها، وعليها أن تدفعَ شتى أنواع الدخول لوقوف البناء الاقتصادي المسروق ثانية، وأغلب حالات التغيير والافلاس والصراعات.
إن المراجل السياسية والعسكرية التي تدور هنا وهناك هي بعضٌ من ملامح هذا المخاض العسير لولادات ذلك العفريت الكبير: الرأسمالية الخاصة، متعاونة مع الحكومية أم قائمة فوق انقاضها، أم متصارعتين حتى الهلاك العام لهما معاً.
تلك احتمالات عديدة لابد من قراءتها لتكتمل الصور.

صحيفة اخبار الخليج
18 نوفمبر 2009