المنشور

برسم النواب والحكومة وديــوان الرقابــة الماليــة

دون الدخول في تفاصيل تقرير ديوان الرقابة المالية الأخير، وهي تفاصيل، لا تختلف في حجم فداحتها، عن تلك الواردة في التقارير السابقة للديوان، يطل برأسه السؤال الكبير: ماذا بعد التقرير؟ ويمكن لنا أن نعمم الأمر فنقول: ماذا بعد التقارير؟ هل سنظل على هذا المنوال، نصدر في نهاية كل سنة تقريراً، يشهد له الجميع بالمهنية العالية، ويجري الحديث عنه أياماً قلائل في الصحافة، وربما تقيم جمعية أو أكثر، من الجمعيات السياسية ندوة حوله، ثم بعد ذلك يطويه النسيان. بحثت في أوراقي عن مقال سبق أن نشرته في زاويتي هذه، ولكنه تاه للأسف بين ركام الورق، ومازلت أذكر أن عنوانه كان بعنوان: »لكي لا يصبح التقرير ترياقاً«، كتعقيب على أحد التقارير السنوية لديوان الرقابة المالية الذي، كما قلت، نشهد للقائمين عليه بحرفية العمل وجودته، ولكن الخشية نفسها تظل قائمة، هي أن يتحول التقرير إلى ما يشبه حبة البندول التي تسكن الألم وتهدئه، ولكنها لا تعالج الداء، الذي هو في حالنا داء الفساد، والذي يرصد التقرير بعناية الكثير من أوجهه. جيد أن يكون لدينا ديوان للرقابة المالية، وجيد، لا بل وعظيم، أن يصدر هذا الديوان تقريراً سنوياً، بعد أن اعتدنا على مدار عقود أن نتكلم عن الفساد دون أن يجري رصد ما أمكن أو ما هو ظاهر من أوجهه. التقرير حلَّ بعض المشكلة، أو سعى لذلك على الأقل، فما يقدمه من بيانات عن التجاوزات المالية التي يرتقي بعضها إلى مقام الفساد البين، يضع أمام المعنيين وقائع دامغة عن حجم الممارسات المخالفة للقانون، والمنتهكة لحرمة المال العام، وهي وقائع جديرة بالوقوف المطول أمامها، وسبق القول إن مجلس النواب بالذات على تتالي دورات انعقاده في هذا الفصل التشريعي لم يحرك ساكناً تجاه ما تضمنه التقرير في نسخه السنوية، رغم أن التقرير يُقدم له ما هو كافٍ من أدلة وبراهين. التقرير يطرح على بساط البحث القضية الكبرى، وهي هل يوجد فساد بدون مفسدين؟ صحيح أن عجلة الفساد إذ تدور فإنها تخلق لنفسها آلية دفعها الخاصة، حين تتحول إلى نسق عام يستوعب أو حتى يجرف، معه متورطين كثر، لكن هذه العجلة لا تتحرك من تلقاء ذاتها، وإنما بإرادة شبكات أو أفراد لهم مصالح مباشرة في الموضوع. لسنا ميالين للتعسف بحيث نصم كل الوزراء أو الوكلاء أو كبار المسؤولين في الوزارات التي رصد التقرير تجاوزات فيها بالضلوع في الفساد، ولكن هذا يجب ألا يعفيهم من تحمل مسؤولية ما يجري في الوزارات والأجهزة التي يديرونها، وهناك وزارات بعينها وردت بيانات عن تجاوزات خطيرة فيها في تقارير ديوان الرقابة التي صدرت حتى الآن، ولكننا لم نسمع حتى الآن عن أية مساءلة. مجلس النواب معني بالأمر، وبمقدار لا يقل فان الحكومة معنية به وعن هذه التجاوزات، كما إن ديوان الرقابة المالية نفسه معني، لأن من صلاحياته تحريك دعاوى ضد الضالعين في التجاوزات التي يرصدها، ولكنه، على مدار السنوات الست التي أصدر فيها تقاريره، لم يفعل شيئاً من ذلك.
 
صحيفة الايام
18 نوفمبر 2009