المنشور

فاطمـــــــة

لا أتخيل كيف سيكون العيد القريب بدونها. منذ عدت البحرين قبل سنوات وصورة العيد في ذهني تقترن بها، حيث تجتمع كل أطراف العائلة في بيت واحد، بعد أن توزع الجميع السكنى على أكثر من منطقة من مناطق البلاد، وانصرف كل إلى تدبر شؤون الحياة التي تزيد ولا تنقص. في جلسة العيد هي اكبر الحاضرين سناً، لكنها اقلنا كلاماً، حيث تجاهد، دون نجاح، لمداراة خجلها الذي ظل طفولياً حتى رحيلها، خلف تعابير الطيبة التي تشع من وجهها. يخيل لي، أحيانا، كما لو أن كل الطيبة اختزلت في هذا الوجه، أو كما لو أنها هي الطيبة تمشي على الأرض. لم تذهب فاطمة إلى الجامعة، ولا حتى إلى المدرسة، لكن الإنسان لا يُلقن الحنان أو الطيبة في المدارس أو في الجامعات، إنهما عطية ربانية، يهبهما الله لمن يشاء من خلقه، ورغم سنوات عمرها التي قاربت السبعين ظلت فاطمة محتفظة بكل هذا الدفق الهائل من الطيبة والحنان، الذي لم تفلح متاعب الحياة وتشوهاتها أن تنال منه، وكان لكل من جاوروها نصيب من هذا الدفق، على شكل رعاية استقرت في نفوس هؤلاء، وقد أصبح الكثيرون منهم، كبارا، آباء وأمهات. بعد أن توفيت أمي منذ نحو ثلاثين عاماً، أصبحت تتعامل معي كما لو كانت أماً لي، خاصة وأني أصغر أخوانها، وقد صرت وحيداً بعد أن رحل الآخرون، وراحت تتسقط أخباري وأنا أتنقل من بلد إلى آخر. بعد غياب قسري طويل عنها فرضته ظروف الحياة التي قست علينا، التقيتها في الشارقة عندما أتيتها أول مرة، ولن أنسى تلك اللحظة المؤثرة، والمربكة، في نفس الوقت، حين أغمي عليها وهي تندفع نحو حضني معانقة إياي، وعندما عدت البحرين خشيت عليها من الأمر نفسه، أوصيتهم ألا تحضر المطار، ولكنها أصرت على المجيء. فرحة عودتي هذه المرة جعلتها أكثر تماسكاً، ولكن اندفاعتها القوية نحوي بيديها المفتوحتين ذكرتني بلقائنا في الشارقة. فاطمة بنت عبدالله مدن، أختي، التي عاشت بهدوء، اختارت أن ترحل بهدوء أيضاً. كانت في حال صحية طيبة، ولكن تعباً مفاجئاً أدركها. لزمت سرير المرض يومين أو ثلاثة فقط، ثم ودعت الدنيا، مخلفة في أذهاننا وأفئدتنا، نحن أحبتها، صورة وجهها الوديع الطيب الذي لن نراه في العيد القريب.
 
صحيفة الايام
17 نوفمبر 2009