المنشور

تأملات في الوقت

أستغرق أحيانا في تأملات حول الوقت. لا أعرف على وجه اليقين الباعث على هذا النوع من التأملات، ولكني أرجح أن مرد ذلك هو الإحساس بأن الوقت يضيق على الالتزامات والمهام التي يرغب المرء في أدائها: أن ينخرط في الحياة فيكون حاضراً في أحداثها، وأن يقرأ كتباً كثيرة، وأن يسامر أصدقاء يحبهم، وأن يهاتف أحبة، وأن يذهب للعمل صباح كل يوم في الموعد نفسه، وأن يجد عدداً كافيا من الساعات كي يخلد إلى نوم عميق يستمد منه طاقة ونشاطاً. العمل بالنصيحة التقليدية البالية: لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد لا تروق للكثيرين منا ولا تناسب إيقاع حياتهم لأنهم يفعلوا ذلك حين لا يجدون الوقت الكافي لأداء هذا العمل قبل أن يؤجلوه للغد، وتبدو الساعات الأربع والعشرون في اليوم الواحد قليلة أو محدودة لكي ننجز فيها كل ما نريد، لأنها تبدو أشبه بدوامة سريعة الدوران لا تمنحنا الوقت الكافي لأداء كل ما نرغب فيه: أن نعمل، وأن نستمتع بالكسل، كأن نرمي بأنفسنا على مقعد ونتسمر أمام شاشة التلفزيون نقلب المحطات بحثاً عن لا شيء، سوى البحث الرتيب نفسه عل قناة ما تشدنا إليها بأمر مسل أو أمر مفيد. شدتني عبارة قرأتها مرة ودونتها في مفكرة صغيرة، بين أشياء أخرى أدونها، وجاءت العبارة على لسان رجل سأله أحدهم، وهو يشكره على خدمة أجزاها له: أنت تقدم الكثير من وقتك. فرد الرجل: “المرء لا يقدم وقتاً أبداً. إنه يقدم اهتماماً، نصائح، معلومات، صداقة، ما أدراني ماذا أيضاً؟ الوقت ليس ملكاً لأحد إنه أداة قياس”. أدهشني هذا التوصيف الدقيق للوقت، إنه ليس أكثر من أداة قياس، وهو توصيف يرغب صاحبه في أن يبدد الفكرة المستقرة في الأذهان عن إضاعة الوقت أو “تضييع” الوقت. وقد يدفعنا التفكير في هذه المسائل إلى متاهات فلسفية عن الزمن، وعن موقفنا في هذا الزمن. من الأجدى والأكثر متعة بالنسبة لنا أن نفكر في الأمر بصورة أبسط، بعيداً عن الفلسفة، لنرى أن الوقت الذي نشكو من قلته ليس أكثر من وحدة قياس، ولكنها وحدة قياس مخيفة لأنها تذكرنا بأن مشاريعنا في الحياة هي على الدوام أكثر وأوسع وأكبر من المساحة التي يتيحها لنا الوقت، إنه لا يمتد كي يمكننا من أن ننجز كل ما نريد، ولو إنه امتد لربما اكتشفنا أن مشاريع أخرى جديدة قد نشأت تبعاً لذلك. والمدهش أننا في عصر السرعة، حيث التسهيلات الضرورية متاحة وهي توفر لنا أوقاتا إضافية لم تكن متيسرة لأسلافنا، ومع ذلك فإننا نشكو من قلة الوقت. أذكر مرة أني تحدثت مع صديق شاكياً له قلة الوقت، وأذكر جوابه المخيف: كل الذين ماتوا رحلوا قبل أن ينجزوا مشاريعهم. كان هذا الصديق يستحث فكرة أخرى لدي ولديه: لا تتعب نفسك بالمشاريع الكثيرة. ستمضي الحياة قبل أن تنجزها. لكني لا آخذ هذه النصيحة على محمل الجد، لأني أظن أن الحياة من دون مشروع تكف عن أن تكون حياة.
 
صحيفة الايام
16 نوفمبر 2009