المنشور

تقرير الرقابة والظاهرة الصوتية.. !


لعل أحسن ما في التقارير الستة التي أصدرها ديوان الرقابة المالية حتى الآن أنها في كل سنة تكشف عن تقيحات لم تمتد إليها يد التطهير والعلاج، وتسرب دخاناً كثيراً وكثيفاً كما أنها تبعث لنا برسالة قديمة متجددة نتلقاها جميعاً “ بعلم الوصول”..

رسالة تذكرنا بالعجز والضعف وقلة الحيلة في مواجهة هذا الكم الكبير من التجاوزات والاختراقات للوائح المالية والنظم الإدارية تصد أي انتهاك وتوقف أي انحراف بكل حسم وحزم ناهيك عن الردع.

 ولعل أسوأ ما يحدث فور صدور كل تقرير ليس أنه يكشف في كل مرة صور وحكايات الانحراف مما يمس المال العام في الصميم والتي نحن على يقين بأنه رغم كثرتها هي قطرة في بحر، وإنما هذه الطقوس الموسمية من ردود الفعل الباهتة الباعثة على الدهشة والصدمة في آن واحد والتي ترد من الجهات الرسمية والتي تختار كالعادة أن تستعيض عن الفعل بالقول في إطلاق تبريرات غير مقنعة وتعليقات مواربة وشروح مرتبكة تثير قدر كبير من الالتباسات وقدر أكبر من علامات الاستفهام والتعجب، وليس بمستغرب أن تصل خلاصات هذه التبريرات الى أن تمنح بعض هذه الجهات لنفسها ليس صك البراءة وإنما شهادة الجدارة في قلب لمجريات الأمور لتسويغ وجهة نظرها وأمعنوا وتمعنوا في ردود هذه الجهات على تقرير عام 2008، فهي تخرجنا بانطباع بأن هناك من يصر على منطق التبرير والتمرير وتسكين الأمور الخطأ.. ! في الوقت الذي كان يتعين على هذه الجهات من باب “المصداقية” وإقناع الناس بجدية الحسم أما بحث وتوجيه ديوان الرقابة المالية على تحريك قضايا لمحاسبة المخالفين والمتلاعبين بالمال العام وإحالتهم الى القضاء ، وهو الأمر الذي يدخل ضمن صلاحيات الديوان، أو تكليف النيابة العامة كجهة محايدة ومختصة بالمباشرة الفورية لتفعيل أجهزتها وآلياتها وأدواتها للتحقق من حقيقة المخالفات والوقائع الخطيرة الواردة في التقرير لتوجيه الاتهام ومحاسبة من يستحق، لأنه ليس من الحكمة أن نجعل ذات الجهات موضع الاتهام بالتجاوزات أياً تكن هذه الجهات هي وحدها المعنية بمعالجة هذه التجاوزات لتتولى وحدها أيضاً مهمة المراجعة والحساب وأن تكون صاحبة الكلمة الفصل في رفض هذه الاتهامات أو التهوين منها أو تفنيدها أو حرفها الى مسار آخر وكأنه حكم علينا أن نقبل بصحتها وأن نستسلم وأن نصدق هذه التبريرات على ما فيها من مآخذ أو علات.. !

ومن أسوأً ما يحدث أيضاً حيال تقارير ديوان الرقابة المالية هو أننا على صعيد الممارسة العملية لا نجد اعترافاً رسمياً صريحاً وواضحاً بالتجاوزات والانحرافات التي يرصدها الديوان، بل لازلنا نعتبرها مجرد ملاحظات ، ونتعامل معها على هذا الأساس ، وبالتالي نبقي لا نغادر نقطة الصفر، ونستمر في إثارة وطرح وتداول البديهيات في الوقت الذي يشير فيه التقرير الأخير لديوان الرقابة المالية الى تصاعد منحى التجاوزات والمخالفات مقارنة بالتقارير السابقة. وبالتالي عليكم الحسبة لحجم الأموال المهدرة.. !!
 
لم يكن ذلك أسوأ ما في المشهد، لأن الأسوأ في ظني هو أن المخالفات طالت مؤسسات تشكلت في ظل التوجهات الإصلاحية، وهو أمر يستحق التأمل والمراجعة، ومن بين الأسوأ أيضاً هذا الموقف المثير لكثير من الريبة والغموض من جانب المجلس النيابي المقترض أن يكون لديه من أدوات المساءلة والمحاسبة ما يكفي ليفتح الباب على مصراعيه لمناقشة جادة لتقارير ديوان الرقابة المالية، ولكن في الممارسة العملية لم نجد هذا المجلس قد قام بدوره المفترض في التعاطي مع هذه التقارير، وفي مواجهة الفساد وحساب المسؤولين عنه بشكل عام، وهو انطباع سائد أثبته على الأقل تجاهل مجلس النواب بكل كتلهم لتقريري 2006 و2007 اللذين فيهما ما يكفي ليؤكد النواب بأنهم لا يسيرون على درب المساءلة كما يجب، بل إن أسوأ وأخطر ما في هذا الموضوع هو ذلك الاتهام الذي وجه قبل أيام لإحدى الكتل النيابية بأنها تساوم على تقارير الرقابة المالية للحصول على امتيازات كما حدث مع تقريري 2006 – 2007 وهو اتهام خطير يبعث فينا القلق والجزع، فهو اتهام موجه الى كل النواب وليس نواباً بعينهم أو كتلة بعينها ولا غرابة في ذلك ولكن الغرابة تنشأ حينما يكون الانزلاق مرة تلو مرة وحينما نألف السكوت على التجاوزات وتمريرها ، والانكا من ذلك أن يظل النواب إياهم على إصرارهم بأنهم حماة المال العام يثيرون الضجيج ويستثيرون المشاعر عبر تصريحات قرأناها من قبل لهم ولإقرانهم.
تقارير ديوان الرقابة المالية لعام 2008 كما هو الحال بالنسبة للتقارير السابقة مليئة ودسمة بكثير من التجاوزات والانحرافات أغرب ما فيها حجم اللامسؤولية وتغييب قيمة المساءلــــة..!!