يمكن أن نعكس العنوان أعلاه، فنقول التراث العربي حداثة أيضاً، فيظل القول صحيح. والمقصد هنا أنه كما في الحاضر العربي حداثيون ومحافظون، فان التراث العربي جمع الظاهرتين في جدلهما وسجالهما المعهود، وبالتالي يصح السؤال القائل: هل للحداثة العربية تاريخ خاص بها، بمعنى هل ثمة جذور للحداثة العربية داخل التراث العربي الإسلامي، وهل صحيح أن يوضع التراث دائما في مواجهة الحداثة، أي يجري التعامل معهما كنقيضين علينا أن نختار الانحياز إلى أحدهما، وبالتالي على المرء إما أن يكون “تراثيا” أو أن يكون “حداثيا” أو في أحسن الحالات توفيقيا بين الأمرين، ساكنا “منزلة بين المنزلتين”؟!
هذا سؤال ليس بجديد، والإجابة الدارجة عليه تذهب للموافقة على أن الأمر كذلك حقا. إذا ما استثنينا حالات نادرة من جهود باحثين عرب في التراث، برؤية معاصرة أو حداثية. نشير منها بشكل خاص إلى جهود المفكر العراقي الراحل هادي العلوي الذي انكب عمرا بكامله على دراسة عيون التراث العربي الإسلامي: فكرا وفلسفة ولغة وكلاما ومنطقا، وقدم للمكتبة العربية أسفارا ستظل الأجيال اللاحقة تذكرها.
الكتاب القيم للشاعر والكاتب محيي الدين اللاذقاني الموسوم “آباء الحداثة العربية”، الذي يتضمن بين دفتيه مداخل إلى عوالم ثلاثة من أبرز رموز الثقافة العربية هم على التوالي: الجاحظ والحلاج وأبوحيان التوحيدي. برأي اللاذقاني، ومعه في ذلك أسباب وجيهة بناها على دراسة وتمحيص، أن هؤلاء الرموز كانوا آباء الحداثة العربية. وأن المثقف أو المبدع العربي الذي نهل الحداثة غالبا من مصادر غربية لم يكلف نفسه عناء البحث عما في تراثه من مساهمات فكرية وإبداعية، هي بمقاييس ذلك الزمان، حداثية.. وهذا يتطلب الكف عن وضع الحداثة في مواجهة “القدامة” ولا اعتبارها، أي الحداثة، مجرد أحداث تعاصرنا أو تجري في زمننا في مواجهة أحداث أو أفكار نشأت في الماضي، سواء كان قريبا أو بعيدا، لأن نصا تراثيا، أو سيرة حياة مفكر عاش في العصر الأموي أو العباسي، قد تكون أكثر حداثة ونضجا ومعاصرة من نصوص تكتب اليوم وقد تكتب حتى في المستقبل. الحداثة، حسب اللاذقاني، هي “قوة صاهرة تجمع خلاصات الجذر مع تجارب العصر”، وبهذا المعنى فإن تراثنا العربي، كما تمثل في رموز من نوع الجاحظ والحلاج والتوحيدي، “يمتلك قابلية التحول إلى طاقة حيوية دافعة” تعطي قوة للتيارات الفكرية والإبداعية المعاصرة، ولكي يتم ذلك فإن ما ينقصنا هو إعادة تقديم ذلك بأسلوب معاصر.
ولا نتوخى مثل هذه القراءة للي عنق التراث ونصوصه لتستقيم مع الحاضر أو مفرداته أو أفكاره، أو تفسيرها من وجهة نظر أحداث اليوم، وإنما عبر قراءة في بنية التراث، من حيث هو تراث، له سياقه ولغته ومستوى المعرفة الملائم له. الحداثة العربية إذن ليست يتيمة أو مقطوعة الجذور، ولكن خطيئة الحداثيين العرب أنهم تنازلوا طوعا عن جذورها التراثية، وقدموها كوصفة بديلة لهذا التراث، فلم يفعلوا سوى أنهم زادوا هذه الحداثة غربة على غربتها.
صحيفة الايام
10 نوفمبر 2009