المنشور

ماذا يعني لنا ذلك .. ؟!

ربما علينا أن نقر بادئ ذي بدء بأن هناك أسباباً وجيهة لا تخفى على فطنة القارئ تجعل من المتعذر إجراء أي مقارنة بين ما يحدث في فرنسا وبين ما يجري في بلداننا العربية عامة والتي تتغنى بسيادة القانون وبالديمقراطية وما الى ذلك مما هو ليس بحاجة الى شرح أو إثبات. ولكن أحسب أنه بمقدورنا أن نتوقف متأملين احتمالية أن يحاكم ويسجن الرئيس الفرنسي السابق جاك شيراك بتهمة ارتكابه شيئاً من الفساد المالي والإداري، وتصوروا التهمة تعود الى الفترة 1977 – 1995 إبان كان رئيساً لبلدية العاصمة الفرنسية، والتهمة استحداث وظائف وهمية لمصلحة مؤيدين سياسيين له ولحزبه.. وهو فساد من دون شك اذا ما ثبتت التهمة التي ربما أنسب عنوان لها: استغلال السلطات والصلاحيات. قلنا بمقدورنا أن نتوقف متأملين هذه القضية، بل وهي فرصة ثمينة للتأمل والتفكير، ولعلنا نجتهد بإثارة سؤال بريىء حول ما اذا كان هذا الذي حدث في فرنسا يعني شيئاً بالنسبة لنا وأن كان من زاوية الأسباب التي تدور في فلك الوقوف على تجارب الآخرين.. !! أول ما يعنيه ذلك برأينا هو أن الفرنسيين لا يؤمنون بمقولة “عفا الله عما سلف” وأن حق الدولة، وحق الشعب لا يسقط بالتقادم مهما مرت السنوات تلو السنوات، كما يعني أن قيمة المساءلة في ساحة الأداء العام لها من الحضور والفاعلية ما يكفي لتفعيل حق الشعب في محاسبة المسؤولين كباراًً وصغاراً اذا ما انحرفوا أو اخطأوا أو اهملوا سواء بقصد أو غير قصد. وثاني ما يعنيه ذلك أن حاكمية كل مجريات الأمور في فرنسا تعود الى القانون، فهو سيد الموقف في كل شيء وعلى أساسه تفعّل آليات المحاسبة والمساءلة في موقف يعبر عن حس بالمسؤولية، والعلاقة العضوية بينها وبين الشفافية والمساءلة واعتبارها شرطاً مركزياً لإدارة شؤون الدولة والمجتمع، وذلك من قيم الديمقراطية الثمينة التي لم تشفع لشيراك لا شعبيته الخارقة في بلاده ولا ما حققه من إنجازات لها. ولعل ثالث ما يعنيه ذلك هو الاستقلالية الفعلية التامة للقضاء الفرنسي، وأن هناك فصلاً حقيقياً للسلطات، ولذا ليس غريباً أن يرفض الرئيس الفرنسي الحالي نيكولا ساركوزي الإدلاء بأي تعليق على إحالة سلفه على القضاء بسبب مبدأ فصل السلطات حاسماًً الأمر بقوله: اذا كان هناك من شخص لا يستطيع الإدلاء بأي تعليق فهو أنا أياًَ تكن مشاعري حيال شيراك. وخامس ما يعنيه ذلك أن إحالة رأس الدولة السابق للمحاكمة لم يعتبر إهانة أو أذى بالرئاسة السابقة والحالية، ولم يوجه أحد اتهاماً بأن هناك مغرضين يحاولون تشويه صورة فرنسا في الخارج وما الى ذلك من كلام اعتدناه أن يثار في دولنا العربية حينما تثار شكوك أو اتهامات بأحد الكبار فيها. ولعل آخر ما يعنيه ذلك أننا في خضم القضية المثارة لم نجد أحداً احتمى بالحصانة أو تخندق بنافذ أو سلطة رادعة لحماية نفسه، ولم تبادر جهة ما لتخلق الذرائع والمبررات لتخفي الحقيقة أو لتنفي اتهاماً أو تغير واقعاً حدث، بل أن شيراك نفسه لم يفقد شجاعته السياسية، واعترف بأن التعيينات المتهم فيها تمت بأمر منه وبطلب منه، لم يحمّل معاونيه الأربعة الملاحقين معه في القضية المسؤولية أو يقذفها ليتحملها “أكباش فداء”، وهذا أمر في حد ذاته يستحق أن نمعن في دلالاته. ذلك كله حدث وبكل شفافية في فرنسا كما حدث في حالات أخرى مشابهة تقريباً في دول عريقة في الديمقراطية .. لم يعترض أحد ، ولم يتدخل أحد لوقف فكرة المحاكمة، ولم يقل أحد “انتبهوا أن وراء الأكمة ما وراءها “ ، وهو كلام نعلم بأنه يمكن أن يكون في بلداننا العربية كافياً لوقف أي شيء يراد عرقلته وتعطيله ووقفه عن التداول والمبررات والذرائع دائماً جاهزة والمهللون والمصفقون لها دائماً جاهزون . صحيح أن ما جرى في فرنسا لا يستغرب في أي دولة ديمقراطية لا تتردد في محاسبة كل من أخطأ أو تجاوز أو فسد وأفسد مهما مرت السنوات، لكننا معذورون اذا ما اعتبرناه من الغرائب والعجائب حين نقارنه بما يحدث في بلداننا العربية التي لازالت حتى قوانين من أين لك هذا وتقارير دواوين رقابتها المالية مجرد مشاريع مغيبة ومعطلة عن البحث والنقاش بفعل فاعل أو فاعلين!! 
 
صحيفة الايام
7 نوفمبر 2009