المنشور

الشعب الذي لم يتزعزع إيمانه بعروبته

لم يعان شعب عربي تبعات الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية ويدفع أثمانا باهظة لهذا الصراع من قوته ودمائه وعمرانه كما عانى الشعب اللبناني وعلى الأخص مناطقه ومدنه وقراه الجنوبية المتاخمة لفلسطين المحتلة. يكفي انه الشعب العربي الوحيد الذي خاض على ارض وطنه حربا أهلية طويلة ضروسا أكلت الاخضر واليابس طوال 15 عاما ونيفا وشردت وهجرت عشرات الآلاف من ابنائه وقتلت وأصابت عشرات الآلاف الآخرين، وكانت هذه الحرب كما يعلم الجميع وتابعوا فصولها على خلفيات القضية الفلسطينية وتعقد النضال من اجل تسويتها تسوية تحررية عادلة ناجزة تنهي الاحتلال الاسرائيلي غير المشروع للأراضي الفلسطينية وتمنح الشعب العربي الفلسطيني حق تقرير المصير وحق العودة واقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشريف.
وأيا كان اليوم تقييمنا لما ارتكبته القوى الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية من اخطاء قاتلة خلال تلك الحروب في مواجهة القوى اليمينية اللبنانية المؤتمرة للمشروع والمخطط الامريكي الاسرائيلي للإجهاز على المقاومة الفلسطينية واقامة نظام سياسي لبناني مرتهن بذلك المشروع وتنصيب القوى اليمينية على رأس ذلك النظام، الا ان تلك القوى الوطنية اللبنانية لم تتحالف وتقدم اغلى التضحيات ونكران الذات والسمو فوق الحقوق والمصالح القطرية الا باسم القضية الفلسطينية ومن أجلها، وهي تضحيات كلفتها الكثير من تآكل شعبيتها وبخاصة في الاشكاليات المعقدة التي اضطرت فيها إلى التغاضي عن الكثير من التجاوزات المؤلمة والمحرجة التي مارستها الفصائل الفلسطينية التي استضافتها واحتضنتها مناطق ومدن وقرى لبنانية وعلى رأسها بيروت العاصمة وحيث كانت معظم تلك الفصائل تتصرف على ارض لبنان كأنها دولة داخل دولة من دون احترام لسيادته ولا لمشاعر شعبه.
والاكثر من ذلك فقد تحمل هذا الشعب البطل الصامد على امتداد ما يقرب من 30 عاما من احتلال جنوبه اقسى واعنف الضربات التأديبية الوحشية الاسرائيلية العنصرية، تارة انتقاما من عمليات المقاومة الفلسطينية المنطلقة من اراضيه، وطورا آخر واخيرا انتقاما من عمليات المقاومة اللبنانية ضد قوات الاحتلال الاسرائيلي التي احتلت جنوب وطنها باسم مطاردة المقاومة الفلسطينية التي يحتضنها الشعب اللبناني ثم لقن المحتل درسا لم يلقنه أي بلد عربي آخر حيث دحر قواته وارغمها على الانسحاب المذل في مشهد اسطوري تاريخي قل مثيله في تاريخ الصراع العربي – الاسرائيلي منذ احتلال فلسطين.
وان المرء لينتابه الاعجاب والاكبار بهذا الشعب العربي العظيم حينما يتأمل اليوم أيما تأمل انه بالرغم مما قدمه من تضحيات جسام من أجل القضية الفلسطينية، وبالرغم مما تحمله من مصائب وويلات مديدة ضريبة لاحتضانه فصائل المقاومة الفلسطينية، وعلى الرغم من كل تجاوزاتها بحق محتضنيها ومستضيفيها على امتداد ثلاثة عقود، وعلى الرغم من كل الضربات الانتقامية الوحشية الاسرائيلية لاحتضانه تلك المقاومة الفلسطينية وحمايتها التي تحملها بملحمة من البسالة والصمود المنقطعة النظير، فإنه لم يكفر ابدا بالقضية الفلسطينية أو يأسف على دفعه بكل اعتزاز وشموخ فواتير الدفاع عنها واحتضان واستضافة المكافحين والمقاتلين الفلسطينيين باسمها.
ولو كان من شيمة ومعدن هذا الشعب العربي اللبناني الابي النزعة الانعزالية عن قومية القضية الفلسطينية، والمن على الفلسطينيين بما قدمه من تضحيات كبيرة من أجل قضيتهم، كما يفعل بعض الأطراف الرسمية العربية التي اعتادت ممارسة هذا “المن” على الفلسطينيين كلما تم تذكيرها بخروجها عن ساحة الصراع العربي – الاسرائيلي والتخلي عن أبسط التزاماتها القومية، لكان هذا الشعب اللبناني في مقدمة ليس من يحق له “المن” فحسب، بل الكفر بهذه القضية برمتها أكثر من كفر أهلها بها.
وكل الحروب التي خاضتها دول الطوق، أو على الادق أجبِرت على خوضها ضد اسرائيل انما كانت تخوضها في المقام الأول دفاعا عن وجودها ودفاعا عن شرفها وأمنها القومي، ودفاعا عن كرامتها وهويتها الوطنية والقومية قبل ان يكون ذلك تكرما منها وتضحية من اجل سواد عيون الفلسطينيين وقضيتهم الوطنية، كما تحاول انظمة بعض تلك الدول ايهام شعوبها بذلك ديماغوجيا.
بعد نحو اربعة عقود عجاف من هذه الملحمة النضالية الصمودية الطويلة التي خاضها الشعب اللبناني منذ تمركز المقاومة الفلسطينية على ارضه عام 1970 بعد طردها من الاردن على اثر مجازر “ايلول الأسود” مازال هذا الشعب يثبت انه واحد من اقوى الشعوب العربية صلابة في تمسكه وايمانه الذي لا يتزعزع بعروبته وافتخاره بها وفي اعتزازه بشرف الدفاع عن قضية جاره الشقيق الشعب العربي الفلسطيني حتى يرث الله الارض ومن عليها.
كانت آخر مناسبة كبرى عامة علنية يبدي فيها هذا الشعب الصغير بحجمة الكبير بشموخه وإبائه في الاعتزاز بعروبته في مهرجان الالعاب الفرانكفونية التي جرت في سبتمبر الماضي إذا لم يكتف هذا الشعب بمواجهة تلك المناسبة بالتطنيش وعدم الاكتراث بل ان من حضر من الجمهور ارسل بما يكفي من الايماءات والرسالات في اعتزازه بعروبته بحضور كبار القوم من الفرنسيين. تصف احدى الصحفيات اللبنانيات مظاهر هذا الاعتزاز ليس من قبل الشعب فحسب بل من القائمين على تلك المناسبة الكبرى، فالاعلان عن الالعاب كتب بالعربية، والكليبات التي تروج للحدث تتكلم العربية مما أثار دهشة المراسلين الفرنسيين وتعمد الحاضرون الوقوف مرتين لعلمهم الوطني، وحينما خطب امين الفرانكفونية عبدو ضيوف خطابه بالفرنسية لم يلق آذانا صاغية بل جوبه بالضوضاء، وحينما جاء دور الرئيس ميشال سليمان تحدث في البدء بالفرنسية، لكنه سرعان ما اضطر إلى التحدث بالعربية ازاء تملل الحاضرين الواضح فحظي بالتصفيق الكبير عندئذ، ذلك هو معدن الشعب اللبناني الأصيل في عروبته والتمسك بها، فرغم كل صروف الدهر والمحن لم يتزعزع إيمانه قط بعروبته.

صحيفة اخبار الخليج
3 نوفمبر 2009