المنشور

في المسألة الخنازيرية دوليا ومحليا (1-2)

بعد مضي نحو سبعة أشهر على انفجار الضجة العالمية حول تفشي وباء انفلونزا الخنازير الذي انطلق من اقصى غرب الكرة الارضية بالمكسيك لينتقل في غضون اشهر معدودة الى مختلف بقاع العالم وقاراته شرقا وشمالا وجنوبا، لا يبدو ان ما يثار في قلبها على الاصعدة المحلية والدولية من جدل حول مدى مخاطر الوباء الداهمة في طريقه الى الانحسار، بل على العكس من ذلك فإن هذه الضجة آخذة في التصاعد، فمن الجدل الاعلامي العالمي حول مدى درجة خطورة الوباء، الى الجدل حول الاجراءات المبغي اتخاذها عالميا لمحاصرته، الى الجدل حول مدى ضرورة التطعيم لقاحيا لكسب المناعة التي يستعصي على الفيروس اختراقها، الى الجدل والمماحكة حول مدى سلامة هذا اللقاح وخلوه مما يسبب الاعراض المرضية القاتلة التي اعتبرها البعض اشد فتكا من الفيروس ذاته، الى الجدل حول دور شركات الادوية في اثارة الفزع العالمي وتهويلها من وباء انفلونزا الخنازير لانتاج اللقاحات المضادة له وترويجها في الاسواق العالمية بأبهظ الاثمان التي تدر ارباحا فلكية خيالية، الى الجدل السياسي الطبي حول مدى دور المخابرات المركزية الامريكية في تصنيع الفيروس مختبريا وبيولوجيا وتسريبه وفقدانها السيطرة عليه، فيما اتهم البعض الآخر “القاعدة” بأنها وراء تصنيعه بيولوجيا لتفتك به الامريكيين، مثلما اتهمت قبل ذلك بأنها وراء “الجمرة الخبيثة” غداة احداث سبتمبر 2001، ثم ثبت فيما بعد عدم صلتها به.
لقد قلنا في مقال سابق إن كل الفرضيات المطروحة على ساحة الجدل العالمي سواء حول منشأ الفيروس، طبيعيا ام من تدبير جهات بشرية، وحول وسائل واجراءات مكافحته، وحول مدى سلامة هذه الاجراءات وحول مدى وقوف جهات صناعية تجارية في تهويل الفزع العالمي والخوف من الوباء للترويج لصناعاتها الدوائية.. كل هذه الفرضيات لا ينبغي استبعادها من ساحة الجدل حتى تستطيع اثبات قوة صحتها وتماسكها بناء على ما تملكه من حجج وبراهين واسانيد موضوعية غير قابلة للشك، او تعجز هذه الحجج عن الصمود ويثبت بطلانها وتهافتها او يكون بعض تلك الفرضيات او كلها “بين بين” اي فيها نصيب من الوجاهة والصحة وفيها نصيب من المبالغة او البطلان.
ونستطيع في حدود متابعتنا الاعلامية لجديد ومستجدات الجدل العالمي حول تلك الفرضيات ان نوضح ونستنتج ما يلي بصورة المقاربات والترجيحات النسبية لا الاحكام القاطعة مادام الجدل العالمي حول تلك المسألة مازال محتدما ومادام كل يوم تتكشف حقائق جديدة على ساحة هذا الجدل المتواصل حول المسألة الخنازيرية محليا ودوليا:
أولا: ثمة أطباء وعلماء كبار وعالميون يستبعدون اي دور تآمري في تصنيع الفيروس مختبريا ونشره، ويرجحون ان منشأه طبيعي وليس مدبرا. احد هؤلاء الاطباء وهو البروفيسور الروسي العالمي ديمتري فيخروف (عالم متخصص في مكافحة الفيروسات وعلم الأوبئة)، قال: إن فرضية المؤامرة في انتشار او نشر فيروس انفلونزا الخنازير تجعل من المصنعين مختبريا اناسا ساذجين لا يأخذون بعين الاعتبار حتى لو هدفوا توجيهه الى جماعة محدودة فإنه يصعب السيطرة عليه بعدئذ واستبعاد ان يطاولهم الفيروس ذاته في مرحلة من مراحل تطور انتشاره عالميا ليصيب فئات واسعة، هنا ينبغي التذكير تاريخيا – والكلام لكاتب السطور – انه حينما ارادت الولايات المتحدة قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية كسلاح ابادة شامل فتاك، فإنها اوعزت للطيار بإلقائها من مظلة لكي لا تسقط فورا وتصل اشعاعاتها سريعا الى الطائرة قبل خروجها من فضاء المدينة فتفتك بطيارها الذي اباد مدينة كبيرة في ثوان يقطنها مئات الآلاف من البشر.
ويضيف فيخروف أنه لكي تنجح مؤامرة تصنيع الفيروس ونشره فإنه يحتاج الى التكاثر وهذه عملية معقدة لا تتم الا من خلال عملية تراكم وتغيرات مكثفة لا تتحقق الا من خلال اختراق الفيروس اجسام آلاف البشر من الناس او الحيوانات او الطيور.
ثانيا: ان ثمة قدرا من التهويل الاعلامي العالمي من حجم خطورة الفيروس، وان كان هذا لا يعني التقليل او الاستخفاف من شأن خطورته، وان هذا التهويل من قبل وسائل الاعلام يعد مفهوما باعتباره حديث الساعة عالميا وبات يقلق البشرية جمعاء ويشغل بالها، بصرف النظر عن استغلال شركات الادوية لهذا المناخ الذي يجتاح العالم من القلق للتهويل من الوباء دعائيا عبر الاعلام واغتنام الفرصة الذهبية للتسويق لمنتجاتها الجديدة اللقاحية التي تدر عليها ارباحا تقدر بالمليارات.
ولعل واحدة من المفارقات المضحكة في التهويل الاعلامي والتجاري الراهن عالميا ان معظم الاطباء والعلماء العالميين المتخصصين يجمعون على ان ضحايا الانفلونزا العادية الموسمية هم اكبر حتى الآن من ضحايا انفلونزا الخنازير، بما في ذلك اعداد القتلى الذين صرعتهم، ففي حين وصل عدد ضحايا هذه الجائحة الجديدة حتى مطلع اكتوبر الجاري الى 350 ألف مصاب توفي منهم 4 آلاف في كل العالم يؤكد البروفيسور فيخروف ان عدد المصابين سنويا في كل روسيا بالانفلونزا العادية الموسمية يصل الى 30 مليون انسان يموت منهم 1% وهي نسبة اعلى من ضحايا انفلونزا الخنازير، وان كان من الصعب حصر اعداد المصابين بوباء الانفلونزا الاخيرة على وجه الدقة لعدم ذهاب كل المصابين الى المستشفيات فور اصابتهم ولعدم وجود مختبرات طبية متطورة أو حتى عادية لدى العديد من دول العالم الفقيرة.
ثالثا: انه بغض النظر عن تربص شركات الدواء العالمية لاستغلال هذا المناخ من الفزع العالمي من مخاطر الوباء لتصنيع لقاحات وعقاقير مضادة له وتسويقها عالميا، الا ان هذه اللقاحات هي في الغالب سليمة لا مخاوف طبية منها، واعراضها عادية مؤقتة كأعراض اي لقاحات اخرى. وهذا ما يذهب اليه معظم الاطباء والعلماء لا شركات الادوية المصنعة للقاحات فقط، ناهيك عن ان المتهم الأول بتصنيع الفيروس الا هي الولايات المتحدة نفسها تقوم بأكبر حملة توعوية دعائية لشعبها لأخذ اللقاح وقد طلب الرئيس أوباما إلى الكونجرس تخصيص مليار دولار لسداد مشتريات منه من احدى الشركات السويسرية.
اكثر من ذلك فإن المدافعين عن سلامة اللقاحات التي انتجتها شركات الادوية يستندون في مبرراتهم إلى منطق المفندين نفسه لنظرية المؤامرة في وقوف جهات غربية خلف تصنيع الفيروس مختبريا كسلاح بيولوجي، فمثلما يفترض أن هذه الجهات ليست على تلك الدرجة من السذاجة ليتناسوا ان هذا السلاح ذو حدين وانه بالامكان ان يأتي الدور عليهم ليطاولهم الفيروس ذاته فإن شركات الادوية العالمية الكبرى مثلما تهمها مراكمة الأرباح الخيالية فإنه يهمها ايضا المحافظة على سمعتها التجارية العالمية وان مستقبلها التجاري معرض للزوال اذا ما ثبتت خطورة لقاحاتها المصنعة ومن الامر الطبيعي ان ترفع المسئولية القانونية عنها مقدما مادامت القضية تتعلق بأمراض الانسان المعقدة.

صحيفة اخبار الخليج
27 اكتوبر 2009