المنشور

العملة الخليجية بعد عبور الدولار خطه الحرج

بالرغم من النفي الخليجي المباشر والروسي المداور لمباحثات سرية ضمت دولا خليجية وقوى دولية حول فك الارتباط بين الذهب الأسود والدولار، فإن وزير النفط القطري عبدالله العطية ‘بق البحصة’ كما يقول الشاميون. نقلت وكالة الأنباء القطرية الأربعاء عنه قوله بأن الجدل مستمر ‘حول ما إذا كان من المفيد الاعتماد على الدولار كعملة لبيع النفط أو البحث عن سلة عملات كمخرج من هذا الجدل’.
رغم ضعف الاقتصاد العالمي فإن تسارع اتجاه أسعار النفط لتتخطى حاجز 80 د/ب الذي وضعته بلدان أوبك كحد أعلى أظهر أن ضعف الدولار هو أحد أهم أسباب هذا الارتفاع الذي بدوره سيفقد قيمته بسبب ضعف الدولار ذاته، بينما سيشكل مدعاة لحفز التضخم في اقتصاداتنا من جديد.
على أن العلاقة بالدولار غدت مسألة مصيرية ليس بالنسبة لتسعير النفط فقط، بل والعملة الخليجية القادمة أيضاً. فمنذ مقالنا الأسبوع الماضي والدولار مستمر في الهبوط، وليس في ذلك ما يثير. المثير هو أن اليورو ظل يختبر متانة الدولار عند خطه الحرج، أي 1.5دولار لليورو. الأربعاء عبر اليورو هذا الحاجز لأول مرة منذ 14 شهراً. فقد وصل سعر العملة الأوربية 1.5003 دولار ، أي الأعلى منذ أغسطس/ آب .2008 وإجمالاً فإن اليورو تقوى أمام الدولار منذ مارس/ آذار 2009 بنسبة 15%. السياسيون الأوروبيون يعتبرون سعر 1.5 دولار لليورو كارثة للسياسة والصناعة الأوروبيين، كما نقلت The Daily Telegraph عن مساعد الرئيس الفرنسي أنري غينو، وكما يشير بروفيسور جامعة باريس ميشيل أليتا فإن اليورو الآن يفوق قدرته الشرائية التكافئية بنسبة 40%، وأنه لهذا السبب بالذات فقد حولت كل من Peugeot وRenault عمليات إنتاجهما إلى بلدان أوروبا الشرقية منذ ,2004 أما شركة Airbus فأصبحت تنتج طائراتها من طراز A320 في الصين.
وبالمناسبة فإن تصرف الصينيين أصبح يقلق السياسيين الأوروبيين كثيراً. فقد كانوا منذ العام 2005 يصفون باستمرار تحكمهم باليوان مطلقين له العنان كي يتقوى. لكنهم، وإن بشكل غير رسمي، ثبتوا من جديد سعر عملتهم مقابل الدولار منذ بداية الأزمة. وهاهم لأكثر من عام يبقون على عملتهم مرتبطة بالدولار ليجنون بذلك مكاسب تصديرية جمة. وبفضل هذه السياسة تمكنت الصين في سبتمبر/ أيلول الماضي من مراكمة 68 مليار دولار (ولفارق أسباب جوهرية أرجو ألا يسقط أحد ذلك كحجة ‘لأهمية’ ارتباط عملتنا بالدولار). غير أن الصين صارت تستثمر احتياطاتها الجديدة في سندات الخزانة الأوروبية بشكل رئيسي، دافعة باليورو نحو الأعلى. وحسب وزيرة المالية الفرنسية كرستين لاغارد فإنه لا يجب السماح بأن تدفع أوروبا ثمن العلاقة غير الصحية بين أميركا والصين. ‘نحن نريد دولاراً قوياً’ – مرددة الوزيرة قول كثير من المسؤولين الأوروبيين. وبهذه السياسة المزدوجة تضرب الصين عصفورين بحجر فهي تؤمن لصادراتها ليس السوق الأميركية الأهم، بل والأوروبية التي لا تقل أهمية.
وفي الوقت نفسه تشير Daily Telegraph إلى أن الصين وغيرها من الاقتصادات الآسيوية النامية بلغت الوضع الذي لم تعد معه قادرة على الاستمرار في اصطناع خفض أسعار صرف عملاتها دعما لصادراتها، لأن ذلك سيجعل الفوضى تدب في اقتصادها بسبب دعم انتفاخ الفقاعات. فالسلوك ‘المركنتلي’ الذي ساد في آسيا على مدى العقود الأخيرة أصبح يتراجع بسبب التوقعات التضخمية.
وبين كل هذا يبقى المسؤول الحقيقي عن اختلال أسواق صرف العملات هي السياسة النقدية المفرطة في ليبراليتها والتي يمارسها مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي والتي تقرّب أفول الدولار، حسب التقرير الذي أصدره الأسبوع الماضي مصرف HSBC البريطاني. هذه السياسة ستجبر دول الاقتصادات الناشئة كالصين على تشكيل بناء نقدي جديد. وقد نقلت Daily Telegraph عن رئيس قسم النقد في HSBC ديفيد بلوم أن وضع الدولار المؤلم الآن يذكر بوضع الجنية الإسترليني بعد الحرب العالمية الأولى.
إن غالبية بلدان آسيا، الشرق الأوسط، أميركا اللاتينية، وإفريقيا لا تستطيع أن تسمح لنفسها باقتراب أسعار معدلات الفائدة لديها من الصفر. ‘فالطلاق’ سيكون بينا، لأن أميركا ماضية بالفعل نحو معدل الفائدة الصفري في العام 2010 بهدف أن تتجاوز أميركا أزمتها الذاتية.
كل يتصرف حسبما تقتضي مصالحه. أما إذا كانت عملتنا الخليجية سترتبط بالدولار الأميركي، وبالتالي بأسعار الصرف ومعدلات الفائدة هناك، فمعنى ذلك أن العملة الخليجية لن تستطيع خدمة سياسة نقدية إقليمية تستجيب لحاجات تطور اقتصاد المنطقة.

صحيفة الوقت
26 اكتوبر 2009