المنشور

كيف يمكن التعامل مع دعاوى الحسبة؟

إن ما يحدث في وقتنا الراهن من عملية تمزيق لنسيج المجتمعات العربية والخليجية، يظل مصدره المحوري، أجندة خطاب تيار الإسلام السياسي المتشدد، والقائم على التفسير المحدود لمعاني النص والحاكمية والمفارقة الميتافيزيقية واعتماد المراجع الدينية، وممارسة دعاوى الحسبة، وتعطيل وظائف العقل، واستغلال العاطفة استغلالا بالغ الحيف والعسف.. ناهيك عن تلك العقول غير المتطورة عصريا، التي أصحابها هم أساس المشاكل والبلاء في ترسيخ الاصطفافات الطائفية، والشرذمة المذهبية، والنعرات الفئوية.. مثلما يجسد هؤلاء الإسلاميون المتشددون محورا للشقاء بملاحقة خيرة أبناء ورجالات الوطن من المفكرين والمثقفين، بسيف التسلط على أعناقهم وإنزال الحدود على رقابهم، عند تكفيرهم وحين إهدار دمائهم.
وقد يبقى القول صحيحاً بهذا الشأن انه حسبما سعت تنظيمات وأحزاب تيار الإسلام السياسي المتشدد الى انقسام المجتمعات وشرذمة الطوائف الفئوية والمذهبية.. فإن الأنظمة العربية الدكتاتورية تظل الجهة الأساسية الصانعة الحاضنة لهذه التيارات الإسلامية بالمقام الأول، بل بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف أيضا، هي الأخرى أنظمة قد ضيقت الخناق حول أعناق كفاءاتها ومفكريها بسياسات “التطفيش” والتهميش من جهة، ومحاباة الجماعات الإسلامية بانصهار مآرب ومصالح الطرفين في بوتقة واحدة من جهة أخرى.
وفي ضوء هذه العلاقة الثنائية الحميمية، دفعت الجماعات الإسلامية المتطرفة إلى تنفيذ مخططاتها الظلامية ومؤامراتها ضد تلك الكفاءات المستنيرة وأصحاب العقول النيرة والأفكار المتحررة الذين ضاقت بهم أرض الوطن، قبل ان تضيق بهم السبل والحيل.. ليكابدوا بالتالي وطأة الغربة في أوطانهم، ووحشة الاغتراب خارج أوطانهم.
لعل هذه المقدمة الموجزة مبعثها رغبتنا في التطرق لما حدث للمفكر المصري العربي (نصر حامد أبوزيد) من تشهير وتكفير قبل نحو ثلاثة عشر عاما، وبالتحديد منذ 25 سبتمبر عام 1996م.. حينما واجه المفكر أبشع حرب ظلامية في حروب التيارات المتطرفة، بتكفيره وإهدار دمه.. ليس بسبب كتابة القيم “نقد الخطاب الديني” فحسب ولكن بسبب إماطته اللثام عن الفساد المستشري في أوساط الجامعة التي كان استاذا يحاضر فيها، وكشفه الغطاء عن رموز ذلك الفساد، بانتقاداته البناءة و”الجريئة”، للمآرب والغايات الانتهازية لأحد الأساتذة الإسلاميين والمسئول عن (ترقيات الأساتذة) والمرتبطة تلك المصالح الفردية بشركات توظيف الأموال.
ولعل من أقام دعوى الحسبة في ذاك الوقت ضد المفكر (نصر حامد أبوزيد).. هو أحد رموز وقياديي قوى تيار الإسلام السياسي.. وهو (يوسف البدري) الإسلامي المتشدد، بصفته شريكا رئيسيا وقويا في المصالح المشتركة مع تلك الجماعات الإسلامية.
ولكن بالرغم من “الحكم الصادر في 25 سبتمبر عام 1996م عن قاضي التنفيذ بمحكمة الجيزة الابتدائية بوقف قرار محكمة استئناف القاهرة بالتفريق بين نصر أبوزيد وزوجته”، فإن (يوسف البدري) وأنصاره قد نجحوا في الحصول على حكم بالتفريق بين أبوزيد وزوجته، عبر اتهامه بالردة وتكفيره والتحريض ضده وملاحقته وتأليب المجتمع عليه.. الأمر الذي دفع المفكر أبوزيد إلى أن يغادر وطنه مضطرا ومجبرا.
وبقدر ما نجح هذا الفريق الإسلامي في عملية التحريض وتبني أساليب الفتن والأباطيل بدعوى الحسبة ضد أحد مفكري جمهورية مصر العربية، فإنه كسب أيضا دعاوى أخرى فيما بعد، ضد كبار الأدباء والمفكرين في مصر، وفي مقدمتهم الناقد والأديب جابر عصفور والروائي جمال الغيطاني والشاعر احمد عبدالمعطي حجازي وغيرهم.
ولعل من العجب العجاب أن هيئات القضاء لدى المحاكم المصرية والمتسمة بالاستقلالية والحيادية والنزاهة والمصداقية والشجاعة قد تجاوبت مع تلك الدعاوى الإسلامية للحسبة التي كان يرفعها هذا الإسلامي المتشدد ضد كبار المفكرين المصريين المستنيرين.. دعاوى قد جرت في دمه وفي شرايينه اعتادها بأساليب التطبيل والتزمير .. وامتلأت بمناوأة كل ما يمت بصلة إلى مظاهر الحرية والتقدم والتحرر ومفاهيم الحداثة والتطور.
ولكن في نهاية تلك “المشاوير” فإن تلك الدعاوى الواهنة والادعاءات لهذا الاتجاه بفكره الخارج عن التاريخ فإنها محاولات سقطت في مستنقع التاريخ.. ولحق بها الفشل الذريع، حينما رفضت المحكمة الابتدائية في الجيزة مؤخرا دعوى أقامها هذا الفريق المتشدد ضد أحد الصحفيين المصريين، وهو (خالد الكيلاني) الذي بدوره عقد العزم على “رفع بلاغ للنائب العام يتهم فيه يوسف البدري بالبلاغ الكاذب والسب والقذف في حقه بسبب ما ورد في عريضة الدعوى”، وذلك بحسب ما أوردته صحافتنا المحلية مؤخرا.
وفي هذا الإطار فإنه بدورنا نستطيع القول: إنها فرصة سانحة الى كل من لحق به الضرر البليغ من المفكرين والمثقفين والأدباء والصحفيين المصريين، من جراء عسف دعاوى الحسبة التي رفعها يوسف البدري هو وأنصاره بحقهم وسمعتهم وكرامتهم أن يرفعوا متضامين دعاوى قضائية ضد هؤلاء الإسلاميين أصحاب دعاوى الحسبة، من أجل محاكمتهم ومن ثم وضع حد بل نهاية لهذه الدعاوى القائمة على تمزيق نسيج الأسر وتفكيك عائلات بعينها، وإيجاد الانقسامات الفئوية والطائفية والمذهبية، والشرذمة المجتمعية، ناهيك عن الخسارة الفادحة التي تلحق بالوطن عبر الهجرة القسرية لكفاءاته ومبدعيه وعظمائه ومفكريه.
وقد يبقى القول الملح في نهاية المطاف: ان رفع هذه الدعاوى القضائية يمثل بالدرجة الأولى إعادة الحق الى نصابه وإلى أصحابه.. إحقاقاً للحق وإنصافاً للعدل على كفتي ميزان العدالة.
 
صحيفة اخبار الخليج
23 اكتوبر 2009