المنشور

إعادة البناء بين الفشل والنجاح ( 1 – 2)

رغم الضبابيات الايديولوجية في عالم الرأسماليات الحكومية الشرقية فإنها تصل إلى لحظة أزمة عميقة، وتصويرها بأنها ليست رأسمالية، وأنها تمضي في سبيل مختلف عن عالم الرأسمالية هذا كله لا يغير طابع الأزمة ولكنه يطرح تصورات خاطئة وعمليات خداع اجتماعية واسعة.
في الاتحاد السوفيتي كانت عملية إعادة البناء حادة ومكلفة ورهيبة، فالطابع الايديولوجي السائد كان إعادة البناء للاشتراكية، وتفعيلها عبر الديمقراطية ولم يخطرْ في الوعي السائد للطبقة الرأسمالية الحكومية المتنفذة أنه ليس ثمة اشتراكية فيها، ولن تكون هناك ديمقراطية كذلك!
لقد أوضحنا سابقاً كيف كان البناء الاشتراكي البيروقراطي وضخامة دوره النهضوي التصنيعي، وتفكك العلاقة بين البرجوازية الحكومية وبين العمال، وتمظهر ذلك في تيبسِ المنظومات السياسية والإدارية من نفوذ العمال، وزوال الطابع(السوفيتي)، وقد جرى ذلك على مدى تاريخي طويل نسبياً.
كانت مقولاتُ جورباتشوف في إعادةِ البناء ترتكزُ على مجموعةٍ من الأوهام الايديولوجية، التي بدأتْ منذ ثورة أكتوبر(الاشتراكية العظمى)، ومن أهم هذه الأوهام وصول طبقة العمال للحكم وتفردها في النظام، وتذويبُها للطبقاتِ الأخرى، وتصوره لذلك باعتباره حقيقةً موضوعية، في حين ان نظامَ الرأسمالية الحكومية كان هو السائد، حيث تملكتْ طبقةٌ واسعةٌ من الموظفين العسكريين والأمنيين والإداريين الأملاكَ العامةَ وأخضعتها لسيطرتِها الطويلة، من دون رقابة شعبية عميقة، وديمقراطية، وتحولتْ هذه الطبقة إلى طبقات في مجمل الهياكل السياسية للاتحاد السوفيتي، الذي يضم جمهوريات عديدة ذات قوميات مختلفة، فكما هيمنتْ هذه القوى على المركز كذلك هيمنتْ أشكالُها الأخرى على بقيةِ فروع الاتحاد، وكما نخرت القوى البيروقراطيةُ العاصمةَ وجمهوريةَ روسيا الاتحادية نخرتْ بقية الجمهوريات، عبرَ أشكالٍ من الهيمنة على المرافق الحكومية وبتجميدِ الوعي السياسي المعارض والوعي الجماهيري عن قراءة الواقع الموضوعي.
وهكذا فإن شعارات إصلاح النظام السياسي طُرحت على أساس أن النظامَ الاشتراكي سليمٌ وينقصهُ بعضُ الحريات بحيث تؤدي هذه الحريات إلى تفعيلِ الاقتصاد الحكومي ويتم كشف الفساد فيه وتطهيره ويتم إحداث تقدم عميق به، يعزز المكاسب (الاشتراكية) عبر الديمقراطية وبعض حقوق الإنسان المهدورة فيه كالتعبير وحق التجمع والتظاهر.
هذا ما أرادهُ جورباتشوف في نظرةٍ مثالية، مرتكزاً على اعتبار الرأسمالية الحكومية اشتراكية، حققتْ إصلاحاتٍ جوهرية فيما يتعلق بسيادةِ العمال سيادةً كبرى على الحياة السياسية، وإنه لن تستطيع قوى اجتماعية أخرى أن تظهرَ في مواجهة وجودهم الكاسح وهيمنة الايديولوجية الاشتراكية.
كان الوعي البرجوازي الحكومي السائدُ في الحزب الشيوعي السوفيتي، يمتلكُ مقولاتٍ معينةً عن تحققِ الاشتراكية وتضاؤل الصراعِ الطبقي وقيام الملكية العامة بتذويب الطبقات، وعن سيادة المثل الاشتراكية في الاتحاد وهلم جرا من الأوهام.
لكن ما كان متحققاً هو ما ذكرناه سابقاً خاصة سيادة الرأسماليات الحكومية في الاتحاد في هذه الجمهوريات المتعددة، التي اتخذت أشكال الهيمنة القومية بمختلفِ تجلياتِها في تلك الجمهوريات، المرتكزة على مختلف أنواع البيروقراطيات التي نخرتْ الاقتصاد، وعلى قوى الرأسمالية الخاصة المتصاعدة كذلك، وقد ظهرت الرأسمالية فجأة وقارب القطاعُ الخاصُ الروسي القطاعَ الخاص في إيطاليا في بضعِ سنواتٍ من الانقلاب الاجتماعي! وهذا لا ينفي دور القطاعات العامة في التطور التاريخي وفي الأبوية الاجتماعية، لكن كان إدخال الانتخابات في حياة الاتحاد السوفيتي هو انفجار للقوى الشعبية المكبوتة خلال سنين طويلة بمؤسسات القهر، خاصة قوى القوميات المحرومة من القرارات المستقلة في الجمهوريات الأخرى، التي لم تميز بين القهر القومي الروسي والمكاسب النضالية المُحققة، وصعّدت قوى قومية، وقوى فساد سابقة وجديدة، فهذه الجماهير لم تـُتح لها فرصة الاكتشاف السياسي والوعي الديمقراطي. وفجأة زُجتْ في طوفان الانتخابات والانهيار العام!
وبدا واضحاً أن الاتجاه القومي والاتجاه الديني هما السائدان في الوعي العام، وهذا تعبيرٌ عن تباين مستويات التطور بين الجمهوريات وغياب المساواة، وهيمنة القهر البيروقراطي الحكومي المركزي خاصة.
كما أن القرارَ الرئيسي كان قرار المركز وهو جمهورية روسيا الاتحادية التي بنتْ الاتحادَ وسيطرت عليه وجاء الآن الوقت لكي تنفصلَ عنه!

صحيفة اخبار الخليج
20 اكتوبر 2009