المنشور

أسرة الأدباء (4) وفترة 72 – 75

في ربيع الانفراج والحريات النسبية قياسا، بما قبلها، سيشهد الشارع البحريني حراكا جديدا مختلفا في نوعيته، فالبحرين الدستورية والمستقلة حديثا مقبلة على عيد الميلاد الأول للانتخابات التشريعية في تاريخ البحرين المعاصر. في هذا الربيع ستكون أغاني البلابل الشابة نضجت أكثر من فترة التأسيس، فلكل تراكم ثقافي وتجربة حياتية وعمرية أهميتها حتى وان بدت قليلة وقصيرة، فان مؤثراتها تصبح ملحوظة. فقد برزت الفعاليات الثقافية والسياسية في هذه الفترة، والتي -دون المدح أو التمجيد- كانت من أخصب مراحل الانتاج والحيوية الثقافية، وكأن المبدعين الشباب بطموحهم يتمنون معانقة الكون والنجوم البعيدة، فماذا قدمت الحرية للكلمة وما الذي قدمته الكلمة للحرية؟ هذا السؤال تلاقح بشكل ملموس في بنية الفضاء البحريني الجديد، بحيث بتنا، نركض من مكان إلى مكان، ونقرأ الجديد المتدفق في سوق البحرين، فإذا ما كانت مكتبة العروبة للقاص خلف احمد خلف، ما بين عامي 1967-1969 ستضع على رفوفها كل الإصدارات الماركسية والتقدمية، وطبعا لم تكن مكتبة إبراهيم عبيد بعيدة عن تلك الحالة، فان سنوات الانتخابات ستنجب مكتبة النجمة -القصيرة في عمرها- تتويجا ومكملا لأختها مكتبة العروبة، وفي ذات المرحلة ستولد دار الغد ومكتبتها للشاعر علي خليفة، فكان على أدباء وكتاب المرحلة تلك، التعامل مع كل هذه الأنواع من الكتابات اليسارية والماركسية والتقدمية في الأدب والسياسة والفكر، على أساس ان العالم يومها منقسم بكل وضوح، بين اليسار واليمين، والرجعية والتقدمية، والفن والأدب الملتزم وغير الملتزم، وهذه بحاجة لمناقشة مستفيضة على ضوء المرحلة وتداول مقولة »الالتزام« بشكل خاطئ، تارة بشكل ماركسي ووجودي ولوكاشي، وتارة عبثي وبهيمي ولا معقول ولا منتمي، كما هو كولن ويلسن. كل هذه المناهل والمناهج ربما كانت أعمق من مدارك مستويات شابة متلهفة على المتنوع دون حدود، مهتمة بالكم على حساب الكيف، وهذه من صلب طبيعة المرحلة المتحولة ثقافيا وسياسيا في البحرين. السنوات الأربع تلك عالقة كحلم جميل، رايات حمراء في المحرق وصوت الشاعر والسياسي احمد الشملان يلعلع في يوم الاحتفاء بعيد العمال، فهل هذه المناخات اليومية قادرة على لجم وعزلة الحركة الثقافية والإبداعية الشابة ودفعها لخانة الانحسار والمراقبة والتفرج أم الانخراط والمشاركة؟ نجافي الحقيقة التاريخية فيما لو أردنا دفن رؤوسنا عن تلك الأحداث خارج سياقها التاريخي، كمن يسأل سؤالا أحمق في حينها للحركة الشابة أيهما أهم للإنسان اليد اليمني أم الرجل اليسرى؟ الحركة الوطنية أو الأدبية، الإبداع خارج المعركة أو داخلها؟. هكذا تفاعلت الظاهرتان الثقافية والسياسية مع اللحظة، وقدم مناخ البحرين الجديد للمبدعين فرصة تاريخية ذهبية في التنفيس والتعبير والتحليق لما هو ابعد من حدود الوطن وذاكرته. لا يوجد ناقد أو سياسي يفصل الشروط التاريخية والظروف المرحلية هذه عن نتاجاتها الإبداعية ومخاض البلاد وتقلباتها، محاولا الربط بين العناصر جميعا وتأثير بعضها البعض. قدمت لنا هذه الفترة أعمالا قصصية وشعرية كثيرة، من أين يجيء الحزن للهاشمي 72، إضاءة لذاكرة الوطن 73 وعطش النخيل 74 لعلي خليفة، خروج رأس الحسين لقاسم حداد 72، الرعد في مواسم القحط للشرقاوي 75، عذابات ابن ماجد ليعقوب المحرقي 74 وأحلام الغبشة لإبراهيم بوهندي 75، وسعيد العويناتي في قصائده مثل حلم، ظلال من الذاكرة، الطريق المؤدي إلى المهرجان، إليك أيها الوطن إليك أيتها الحبيبة، حديث صريح مع بحر الخليج، لحظة تأمل في الذاكرة والفرسان الثلاثة وغيرها، والتي ستشكل مادة ديوانه (1976) الذي سيولد مع مرحلة التوتر والانتكاسة الدستورية، بينما في عالم القصة ولدت نتاجات جديدة لكل من محمد الماجد في مجموعته »الرحيل إلى مدن الفرح« طباعة دار الغد 47/75، وموت صاحب العربة 72 ونحن نحب الشمس75 لمحمد عبدالملك، عبدالله خليفة ولحن الشتاء في 75 والحلم وجوه أخرى 75 لخلف احمد خلف وأمين صالح في هنا الوردة والصادرة عام 73، هذه الحيوية الشعرية والقصصية والثقافية، وقد كان المسرح رائدها ملمحا من ملامح المرحلة، كل تلك العناوين تؤكد تفاعل كتاب الأسرة مع البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية في البحرين، فنحن لا يمكن فصل ذاكرة علي خليفة يومها عن ذاكرة قصيدته »كان الفتى سلطان« الذي مات في مصنع الموت، وكان حديث البلاد، إلى جانب كون الشاب من حيهم، وقصائد أخرى كقادم في الزمن الاتي وذاكرة البلاد مضاءة. ومن يتوقف تجاه تلك القصائد وعناوينها المكشوفة والفاضحة والجريئة -دون استثناء- للأدباء الشباب والمرحلة، سيراها تضج بالغضب والاحتجاج والثورة والحلم والاضاءات البعيدة القادمة من عمق الذاكرة، ولن تكون تلك الذاكرة إلا ذلك الشعب وتاريخ العذاب والمرارة والمعاناة والحلم واليقظة في استعادة الوطن، وهو في حالة استلاب والحرية وهي في حالة سجن طويل وإنسان مطارد. يومها كان عبدالحميد قائد وزملاؤه في حلتهم واضحين فهو في عاشق في زمن العطش، يقول لنا بأنه »لا يكتب إلا للشرفاء وفقراء العالم« بقوله : حين طلبت الخبز الأبيض للفقراء ربطوني في أشجار الشوك الأخضر، ضغطوني فوق الوجه الظامئ، خاصمني الأوغاد.. خانتني المدن الملعونة، فعرفت الأبيض من الأسود. هل شاعر مثل القائد يعتقل في فترة المسيرة العمالية 72 بسبب الإضراب في طيران الخليج، في مرحلة اتسمت بكثرة الإضرابات، بإمكانها أن تجعل من أصوات الأسرة سلبية وصامتة ومراقبة؟ سنجافي الحقيقة مرات بأن نطلب من شاعر مصلوب أن يهادن أو ينسى تلك البيئة السياسية الجديدة، التي حملت من المتناقضات معا، ففي هذه الفترة هناك مناخ الانفراج والحيوية والفرح المشوب بالحذر، وهناك ظلال الملاحقات والتهديد والإشارات الموحية بالعودة للوراء، وستجد الأسرة نفسها بغالبية أعضائها يتحسسون أن العيون تترصدهم وتلاحقهم، وقراءة واحدة لتلك المرحلة 72-75 تكفي لتلمس تلك الثنائية المعلقة بين الفرح والظلال الكئيبة، كما هو الأسود والأبيض عند القائد، وستصبح مفردة المغني المطارد المرموز له في النص، ليست إلا رأس ذلك الشاعر الخارج من »المدن الخائنة«. إنها مرحلة خصبة نقلتنا من ركود وخمول ما بعد مرحلة الهيئة إلى حيوية سنوات ما بعد مرحلة انتفاضة مارس 65-75، ذلك العقد في النصف الثاني من القرن المنصرم، كان أكثر حراكا وتقلبا وتناقضا من حياة البحرين.
 
صحيفة الايام
20 اكتوبر 2009