المنشور

تقرير جولدستون.. وفساد “السلطة”

في أوائل العام الجاري، وتحديداً بعد فترة وجيزة من انتهاء حملة الابادة الحربية الوحشية الاسرائيلية على السكان المدنيين في قطاع غزة التي ارتكبت خلالها قوات الاحتلال الصهيونية أبشع جرائم حرب بحق شعبنا الفلسطيني منذ اغتصاب أرضه عام 1948م، كنت قد كتبت مقالا توضيحيا في هذه الزاوية على اثر مقال للأخت الفلسطينية الاستاذة نائلة الوعري ابدت فيه انزعاجها الشديد من مقال لي بهذه الزاوية اتهمت فيه السلطة الفلسطينية بالفساد في الداخل كما في الخارج، واستشهدت بمظاهر الفساد الخارجي بكثرة البعثات الدبلوماسية الفلسطينية المعتمدة في بلدان عديدة من العالم وبضمنها بلدان عربية لا ضرورة قصوى لتكبيد الميزانية الفلسطينية باستمرارها او بوجود كل تلك الاعداد من أعضاء البعثات الدبلوماسية في اكثر البلدان، دع عنك نزوع معظم هذه البعثات الدبلوماسية الى سلوك نمط حياة معيشية أقرب الى الرغد، على شاكلة نمط حياة البعثات الدبلوماسية لدول العالم الغنية ومنها دول الخليج نفسها، ناهيك عن ان جل البعثات الدبلوماسية الفلسطينية، ان لم يكن كلها، تستحوذ حركة “فتح” على تمثيلها باسم السلطة الفلسطينية في ظل تغييب أي تمثيل ولو نسبي شكلي لفصائل المنظمة الاخرى، وعلى الأخص الجبهتان الشعبية والديمقراطية فضلاً عن المستقلين، ناهيك عن تقصير هذه البعثات في واجباتها خلال حرب الابادة على غزة.
وأذكر حينذاك كان من ضمن من اتصلوا بي للتعليق على مقالي قنصل البعثة الدبلوماسية الفلسطينية بالبحرين الأخ الفاضل الاستاذ جهاد القدرة الذي وعدته بتلبية دعوته الكريمة لي على مائدة لشرب فنجان قهوة نتبادل خلالها الآراء حول هموم القضية الفلسطينية. وقبل ايام قليلة شاءت المصادفات البحتة ان اتعرف إلى الدبلوماسي الفلسطيني الأخ الاستاذ القدرة وجهاً لوجه في احدى الحفلات الدبلوماسية العامة بواسطة احد معارفنا من الدبلوماسيين المصريين، فكان ان بادرني بالعتاب لتأخري في تلبية دعوته الكريمة لي لفنجان قهوة دردشة مشتركة، فقلت له مازحاً وأنا أفتعل الضحك في لهجة تجمع بين الجد والهزل: مازلت عند وعدي لك يا استاذ جهاد لكن بشرط واحد. فرد ما هو هذا الشرط؟ فقلت: ألا يكون حوارك معي يهدف عبثيا إلى اقناعي بعدم وجود فساد في السلطة الفلسطينية. فرد عليّ محدثي متداركاً شيئاً من الحرج: الفساد يا عزيزي موجود ليس في السلطة الفلسطينية فحسب بل في كل دول العالم.. فرددت عليه: عندك حق، لكن ان يوجد فساد في حكومات العالم قاطبة فهذا أمر يمكن تفهمه، وان كان مرفوضا مبدئيا، لكن أن ينخر قيادة حركة تحرر وطني مازال شعبها يئن منكوباً تحت أسوأ وأحط انواع الاحتلالات العنصرية في تاريخنا المعاصر، حتى ان سمت تلك القيادة نفسها “سلطة فلسطينية”، فتلك مصيبة ومأساة ما بعدهما مصيبة ومأساة بل لم تعرف أي حركة تحرر وطني عربية مثيلاً لهما في تاريخنا العربي الحديث. ولم أشأ ان استطرد أكثر من ذلك مبدلاً موضوع دردشتنا القصيرة الى موضوعات اخرى غير سياسية لكي لا أفسد أول لقاء تعارفي عابر بيننا.
بعد يومين فقط من تلك المناسبة تذكرت هذا الحوار على اثر تفجر فضيحة طلب السلطة الفلسطينية تأجيل مناقشة تقرير رئيس لجنة تقصي حقائق جرائم حرب الابادة العنصرية الصهيونية على شعبنا العربي في قطاع غزة برئاسة ريتشارد جولدستون وذلك تحت ضغوط امريكية اسرائيلية مفضوحة وبالتنسيق مع بعض الاطراف العربية.
وعلى الرغم من محاولة الرئيس الفلسطيني محمود عباس تنصله من مسؤولية هذا الطلب – الفضيحة وطلبه تشكيل لجنة للتحري فيمن يقف وراء تلك الفضيحة فإنه سرعان ما ووجه بطوفان من المعلومات والحقائق كشفتها اطراف عديدة فلسطينية وعربية واسرائيلية ودولية تقطع جميعها بما لا يقبل أي مجال للشك بوقوفه شخصيا وراء ذلك الطلب الذي حاول بمختلف الوسائل التنصل من مسؤوليته، فكان ان وقعت السلطة الفلسطينية نفسها في حيص بيص مُجِرة أذيال خيبتها وفضيحتها المدوية أمام شعبها والعرب والعالم بالتخبط تارة بقرار تشكيل لجنة تحقيق مدة اسبوعين للبحث عن المسؤول عن طلب سحب التقرير، وتارة اخرى بطلب احالة الموضوع إلى مجلس الأمن، وتارة ثالثة بطلب إعادة بحث الموضوع في مجلس حقوق الانسان الدولي، وكان أكثر المفارقات خزياً ان جاءت مواقف الامانة العامة لجامعة الدول العربية وعدد من الدول العربية، ناهيك عن مواقف منظمات حقوق الانسان الدولية، وعلى رأسها “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش”، أكثر تقدماً من موقف السلطة الفلسطينية المخزي التي توهمت ان ردود الفعل الغاضبة ستنحصر في “حماس” فقط، ولم تتوقع البتة اندلاع ثورة الغضب العارمة التي عبرت عنها كل فئات وقطاعات الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات وكل ألوان الطيف السياسي التي شعرت جميعها بنزيف الطعنة الغادرة لدماء اشلاء اطفال ونساء وشيوخ وشباب غزة ضحايا الارهاب الصهيوني الغادر.
ان تأجيل بحث تقرير جولدستون لم يكن سوى اغتيال لقضية آلاف الضحايا الابرياء ولدماء أولئك الشهداء الابرار وتثبيط عزائم كل الشرفاء في العالم وداخل منظمات حقوق الانسان الذين تضامنوا مع الشعب الفلسطيني ابان العدوان على غزة في أواخر ديسمبر وأوائل يناير الماضيين، ولا مبرر للقول إن هذا التأجيل هو لاتاحة الفرصة لتحقيق اكبر اجماع لصالح توصيات التقرير، فما كان الشعب الفلسطيني يتوقع البتة تحقيق المعجزات لتأديب اسرائيل عمليا من خلال تنفيذ تلك التوصيات، بقدر ما كان الغرض اساساً منه استغلاله كسلاح اخلاقي بتوجيه لطمة معنوية دولية قوية لاسرائيل توثق فضح وادانة المجتمع الدولي لها لوحشيتها وعنصريتها في عدوانها على غزة.
لكن حتى هذا السلاح الاخلاقي وهو السلاح الوحيد المتبقي في ايدي الفلسطينيين والعرب لبز اسرائيل به امام العالم وتأكيد مظلوميتهم وعدالة القضية الفلسطينية شاءت السلطة الفلسطينية إفساده أي جعله سلاحاً فاسداً، عديم الجدوى، وليس ثمة تفسير لذلك سوى غريزة نزعتها الفسادية بخضوعها لابتزاز امريكا واسرائيل وحلفائهما الاوروبيين المالي والسياسي بالتهديد بتوقيف الدعم المالي عنها.

صحيفة اخبار الخليج
14 اكتوبر 2009