المنشور

أسرة الأدباء (1) الفضاء التاريخي

أثلج صدري كثيرا ليس الاحتفاء بأربعينية تأسيس أسرة الأدباء والكتاب البحرينية وحسب، بل وبجعل هذه السنة سنة مميزة للأسرة من حيث الفعاليات الممتدة لستة شهور متواصلة. وإذا كان من حق وفرحة الشعب البحريني أن يعيش كرنفال تلك الشهور الستة، فإننا نحن الجيل الشاب، الذي كان قريبا لندوات الأسرة في بداياتها أو قريبا للغاية لمبدعيها الشباب، فرحة مختلفة، خاصة وان الجزء الكبير منهم كان على تماس بالحياة السياسية والحزبية، فلا يمكن أن ينتج يومها مبدع شاب عملا أدبيا دون المرور بتلك البوابة “بوابة الجحيم أو الفردوس”. لهذا سأحاول أن أكون منصفا لتاريخ الأسرة، ليس الإبداعي والثقافي ولكن السياسي أيضا، فهي مثلت ضمير الشعب وروحه في حقبة من حقب المواجهة مع الاستعمار وما بعده، وواصلت من اجل مشروع الحرية وحرية التعبير الذي بدونه يصبح الإبداع مسجونا في قفص الرعب والخوف والملاحقة. وإذا ما كان للأسرة اليوم فخر واعتزاز بمسيرتها ومشاركتها في التحولات، فان ذلك يعود للجيل الشاب الأول، والذي أصابته مصائب الانتساب لتلك المظلة الثقافية، لكونها كانت على تماس بالسياسي اليومي والفكري التقدمي، حيث تميزت البحرين من داخلها بلهيب المرحلة، مثلما تميز المحيط الجغرافي العربي والعالمي بغليان ثوري وتحرري، ولن يستطيع فصل الكاتب رأسه عن جسده، فقد اقتنع يومها ان المسارين متلازمان، حياته الإبداعية وقراءاته مع تلك البيئة السياسية والثقافية والاجتماعية، تلك البيئة التي تفجرت مساراتها السياسية والثقافية مع بداية الستينات، وتتوجت مع أحداث مارس، التي رفعت في بياناتها ومطالبها عودة المكاسب التي عرفتها البحرين منذ فترة الهيئة، ومن ضمنها عودة الصحف والصحافة. وإذا لم نتحدث عن الفضاء والأرضية، فان الأسرة تصبح مجرد مصباح كهربائي معلق في زقاق ضيق لا ينفث للشارع الصغير إلا ضوءا باهتا ومحدودا، ولكنه بالتأكيد سيعبر من ذلك النفق الطويل والمظلم بتقلباته وقسوته، حتى وجدنا أنفسنا مع المشروع الإصلاحي نتنفس الصعداء ونرى في ثقافتنا ومبدعينا مرحلة جديدة متنوعة كباقة ورد، وسيبقى مشروع وشعار الأسرة القديم “الكلمة من اجل الإنسان” حاضرا دائما، غير ان كتاب وأدباء البحرين كانوا يدركون إن الشعار كان مستلبا ومسلوبا ومحرفا من مقولة “ليس بالحرية يحيا الإنسان” فقامت الأسرة في حينها بتغيير الكلمة وقلب المسألة بالطريقة التي ناسبت صانعيها في تلك الفترة الحرجة من عام 1969. لم تكن الفكرة والولادة نتاج للصدفة بقدر ما إن للضرورة التاريخية فعلها، فلا يخرج الإنسان من ثوب الحقيقة فجأة، وإنما ينمو دخل ذلك الثوب، الذي ستأتي مرحلة لا بد من تمزيقه والخروج من “شرنقته” وادرانه. لا أحد من جيلنا تحديا بامكانه ان ينسى دور “المؤسس والرائد ومحور عملية التأسيس” الدكتور محمد الأنصاري في ريادته ببذر الفكرة والانطلاقة، وكان ينبغي أن يتحول من دور المؤسس إلى دور العراب، إن لم يكن فعلا فعلى الأقل روحيا، فمن الضروري لكل حركة أبها الروحي والمعني بأمور كثيرة (وسنتحدث عن تلك الحالة في مقالة منفصلة، فقد تخلى الأنصاري عن دور العراب الفعلي مكتفيا بفترة قصيرة – ربما تكون لها مبرراتها وظروفها الشخصية والموضوعية، وربما لغايات في نفس أكثر من يعقوب – فما بين فترتي 1965 -1969 وفترة 1969-1972، حدثت مخاضات عدة وبخصائص معينة سنتوقف عندها وكيف تفتحت في تلك الفضاءات يرقات الحرير، حيث ستقفز الأصوات الشابة لتزيح ذلك الرعيل، الذي تجمد، ليس عند قوافي وأبيات الشعر الكلاسيكية، وإنما كمبدعين ومثقفين فضلوا خيار الانعزال عن معركة الكلمة واكتفوا بمقولة الإنسان، فوجدنا الجسد التقليدي في ثقافة الأربعينات والخمسينات وروادها مقطوعة الجسد والأوصال، حتى وان كانوا كبارا في شعرهم كنموذج شاعرنا طيب الذكر إبراهيم العريض، والذي نحبه جميعنا ونحترمه من عدة أوجه، إلا الوجه الذي كان يتطلب موقفا من تلك الكلمة. ولو استمع في ذلك الوقت لكلامه شاب شاعر يطلب نصيحته وهو يقدم له بعض أبياته لما عاد اليوم هذا الشاب وجه البحرين العالمي في الإبداع. ولم يكن ذلك الشاب إلا قاسم حداد الذي أراد أن يسمع نصيحة العريض في شعره فقال له “أنصحك أن تهتم بالصحافة”. هذه المسافة بين جيلين كانت الفجوة الفاصلة لمرحلة سياسية وفكرية أيضا، إلى جانب التحولات الفكرية والإبداعية في المناهج والمدارس الأدبية. فهل الأسرة وحدها لها فضل اكتشاف تلك المواهب المبدعة الشابة؟ أم إن الدور الريادي والحقيقي سيكون لشخص آخر فتح ذراعيه لتلك الأصوات، وقدم لها الغطاء والفضاء الثقافي، الذي من خلاله ستصدح وتغني الأصوات البحرينية الشابة، وسيتعرف شعبنا في هذه الفترة على الربيع القادم. نختزن الكثير من الصور والروايات الشخصية، فالأسرة لم تكن بعيدة عن تفاصيلها الداخلية مع شخصيات سياسية تابعة لتلك الحديقة، ولكننا في هذه المقالة نفضل الحديث عن التاريخ، بماضيه ومرارته ولذته، والحاضر بما فيه من تطلعات وأحلام مستمرة لدى الرعيل الجديد من الكتاب والمبدعين في الأسرة، والذين يعتبرون تكملة لمسيرة أصيبت بالكثير من الكدمات والجروح وكادت تموت بعد الاختناقات والخنق المستمر، ولكن الأسرة صمدت لكل الرياح والطواحين، لأنها في النهاية روح الشعب الإبداعي ومشروعه الحضاري، مثلها مثل جمعيات فنية أخرى، غير إن الأسرة لم ينجح احد بتمزيقها إلى عدة جمعية كما هي الفنون التشكيلية وغيرها. جاء الوقت أن نعيد قراءة المرحلة بحكمة العمر وتجربته، ونترك لكل مرحلة مساراتها ومضمونها، تقلباتها وصراعاتها، فليس الصراع الفكري والتنوع الأدبي والمناهج، نفسها في المناخ الديمقراطي كما هي في عهد ما قبل الإصلاح، فقد خنق الاستبداد المائة وردة وكانت الأقمار بين خيار الاستسلام أو المواجهة، الحياة والموت لطالما رفعت شعارا “ملتزما وصداميا”، أما في زمن الإصلاح فإننا بالإمكان أن نتحدث عن شعار الثورة الثقافية الصينية “دع مائة زهرة تتفتح” فلن تقحم السياسة المؤدلجة نفسها على برنامج الأسرة بقدر ما سيجد المبدع نفسه متورطا في مشروع الحرية وحقوق الإنسان من الجانب الأخر لحضارة القرن الواحد والعشرين.
 
صحيفة الايام
11 اكتوبر 2009