المنشور

ماركس الرمزي وشبحية دريدا (1 – 6)

إنها مسافةٌ كبيرةٌ تلك التي تفصلُ بين ماركس ودريدا، بين منظر الطبقات العاملة الغربية وبين المثقف الذي أسهمَ في صنعِ رؤيةٍ تـُسمى “التفكيكية”. ثمة مهمةٌ تحويليةٌ للأول على صعيد تغيير موقع تلك الطبقات العاملة، فتغدو سياسية بالدرجة الأولى، في حين يتوجه دريدا لتغيير مفاهيم ثقافية وطرح فلسفة جديدة.
وقد خصص دريدا كتاباً لقراءة ماركس من خلال رؤيته، سماه “أطياف ماركس”، (الترجمة العربية للدكتور منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، ط 2، 2006، الذي سوف نعتمدُ عليه في قراءة دريدا وليس ماركس).
يعبر الكتابُ عن خلاصة هذه الرؤية، كما أنه يعرض رؤيته الشبحية لماركس، حيث ترتكز على تحليلات أدبية، واستدعاء شبح هاملت كثيراً، ومناقشة الشبحية عموماً، وقد افتتح ماركس وأنجلز كتابهما المشترك “البيان الشيوعي” بعبارة “شبحٌ يحومُ على أوروبا، إنه شبح الشيوعية!”.
تمثلُ اللحظتان: لحظة ماركس في سنة الثورة العمالية الأوروبية الواسعة سنة 1848 ولحظة دريدا سنة 1967 حيث كتب أبرز كتبه في هذه السنة في فيض إبداعي، عبر تأملات شخصية، مسافةً زمنيةً كبيرة، ليس في تدفق سيل الزمن المحض، بالسنوات والعقود، بل في تدفق الزمن الاجتماعي الثوري العالمي.
كانت الدعوة التي فجرها ماركس وأنجلز في تلك السنة من القرن التاسع عشر، عبر حيثيات اللغة المشكلة من تحليلٍ تلغرافي ونداءات شوارعية، تحمل خضم الزمن الاجتماعي في حينه.
تعتمد لغةُ “البيان” على مصطلحات عسكرية قتالية وتفرزُ بسرعةٍ وحدةٍ معسكرين اجتماعيين متصارعين:
“حر وعبد، نبيل وعامي، بارون وقن، معلم وصانع، وبكلمة ظالمين ومظلومين، في تعارض دائم، خاضوا حربا متواصلة، تارة معلنة وطورا مستترة، حربا كانت تنتهي في كل مرة إما بتحول ثوري للمجتمع كله، وإما بهلاك كلتا الطبقتين المتصارعتين”.
هو تصويرٌ قتالي لتاريخ أوروبا الصراعي الاجتماعي، وليس لتاريخ البشرية، منذ أثينا وعبر ومضات حتى العصر الوسيط، بتركيز تلغرافي ورسالة غير مشفرة للبروليتاريا الأوربية “الحديثة”، من القائد المثقف الذي خرجَ من بين دخان خنادق الصراع الاجتماعي الملتهبة، وهذه اللغة الصراعية الحربية فيها ومضاتٌ من العلم التحليلي الاجتماعي، لكن الأدلجة الزمنية المؤقتة زاخرة فيها.
وتتركزُ الرسالةُ ضد الأنظمة الرأسمالية الراهنة التي انتصرت توا على الإقطاع:
“الشرط الأساسي لوجود الطبقة البرجوازية ولسيطرتها، هو تكديس الثروة في أيدي خواص، تكوين الرأسمال وإنماؤه. وشرط وجود الرأسمال هو العمل المأجور. والعمل المأجور يقوم، حصراً، على المزاحمة بين العمّال. وتقدّم الصناعة، الذي تُشكّل البرجوازية دعامته بلا إرادة منها وبلا مقاومة، يُحِلّ وحدة العمّال الثورية عبر الترابط محل انفرادهم الناتج عن تزاحُمهم. وهكذا فإنّ تطور الصناعة الكبيرة يزلزِلُ تحت أقدام البرجوازية، الأساسَ الذي تُنتج عليه وتتملّك المنتجات. إنّ البرجوازية تُنتج، قبل كل شيء، حفّاري قبرها، فانهيارها وانتصار البروليتاريا، أمران حتميّان”.
وتـُرسم الأوضاع هنا بذات اللغة العاطفية المتأججة حماسة وفيها موضوعيةٌ ترقصُ على لهب، والخندقان واضحان، والموت الاجتماعي لاحدى القوتين قريب وأكيد، حين تلغي البروليتاريا المزاحمة بينها، ويتكفل وضع التقدم الصناعي نفسه بالقضاء على البرجوازية، فيجري هنا الرسمُ الاختزالي للموقف الراهن وتحويله إلى أمر سياسي. تاريخ البروليتاريا كقسم ذليل ومتخلف من السكان غير مرصود، وتاريخ الإنجازات الرأسمالية غير مرصود، وثمة معركة لابد أن تنتهي بانتصار القسم المعدم غير المبحوث في وعيه ومستوياته. غائيةُ السياسة هنا أكبر من التحليل العلمي.
وتتحول سرعة التحليل المقتضب العاطفي المتكهرب في نيران أوروبا في سنة 1848 إلى سياسة عالمية موزعة على كل الأقطار:
“وأخيرا يعمل الشيوعيون، في كل مكان، على إقامة العلاقات، وعلى تحقيق التفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان. ويأنف الشيوعيون من إخفاء آرائهم ومقاصدهم، ويُنادون علانية بأن لا سبيل لبلوغ أهدافهم إلا بإسقاط النظام المجتمعي القائم، بالعُنف. فلترتعد الطبقات السائدة خوفا من ثورة شيوعية. فليس للبروليتاريين ما يفقدونه فيها سوى أغلالهم وأمامهم عالم يكسبونه. أيّها البروليتاريون، في جميع البلدان: اتحدوا بين التشريح الاكلينيكي المختزل لطبقات أوروبا (الغربية) وأمريكا الشمالية في طبقتين اثنتين فقط ومتصارعتين فوق خندق الغرب، حيث لم تكن بقية العالم سوى ناقعة في الإقطاع، يتم التوصل للأوامر العسكرية الموجهة لـ “الفصائل” بإسقاط النظام المجتمعي القائم”.
إنها تعابير حاميةٌ ومتناقضةٌ، فتحويل معسكر أوروبا الغربي في بضع مدن مشتعلة وسحبه إلى جميع أقطار العالم، للقضاء على نظام مجتمعي بشري تم اختزاله هو الآخر، وتنمَط في شكل مجرد، ومع هذا التجريد الحاد، فإن الشيوعيين حسب صيغة البيان هنا مدعوون كذلك للتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع البلدان.
هل ثمة أحزاب ديمقراطية في جميع البلدان؟ وهل يمكن الحوار مع الديمقراطيين وأنت مدججٌ بكلِ هذه اللغة العسكرية؟ وكيف يمكن الحوار هنا وأنت لديك مشروع كوني لإزالة كل من يختلف مع البروليتاريا؟
في غمرة ما هو كائن في تلك السنة الحامية الأوروبية ثمة تنوعات وبقايا أنظمة ومستويات أوروبية وأمريكية متفاوتة، وثمة علاقات بين أوروبا الغربية هذه والعالم، أي هنا الكثير من التفاصيل والمعطيات الجوهرية كذلك التي لا تُؤخذ في مثل هذه اللحظة الاختزالية، لكنها حين تـُصاغ في بيان تاريخي ينتشر ويتغلغل في الأبنية الاجتماعية المختلفة المتفاوتة التطور، يحدثُ لها انفصالٌ عن لحظتِها الخاصة، وتغدو ذاتَ نمو مستقل، فتصبحُ لغةُ البيان عالميةً فعلاً، أي ان الزمنَ الاجتماعي هنا يحلقُ بها، ويغدو طيرانها معتمداً على سرعة الرياح الاجتماعية.

صحيفة اخبار الخليج
10 اكتوبر 2009