المنشور

سماء أقل ارتفاعا

جلس الفتى أمام شباك الغرفة وقد أزيحت الستائر عنه، الجو في الخارج غائم: مطر ناعم، خفيف يهبط متناثراً على إسفلت الشارع المحاذي للشباك تماماً، فيبدو الشارع مغسولاً، ندياً، حميماً أكثر من العادة، وعلى زجاج الشباك بعض قطيرات المطر. سلك لخطوط الهاتف يمتد في الخارج وفوقه وقف عصفور صغير يذكر بقصة جميلة ليوسف إدريس. في تلك القصة حكى الكاتب عن عصفور صغير أرهقه الطيران الطويل فقرر أن يستريح فوق سلك لخط الهاتف، المصادفة وحدها هي من ساقت هذا العصفور نحو هذا السلك بالذات، والعصفور السادر في حلمه لم يكن يعلم إن داخل هذا السلك ذبذبات كبيرة تحمل أصوات نساء ورجال يتبادلون الأحاديث، أحصى الكاتب عدة مكالمات في الآن ذاته. كانت ذبذبات الحب في السلك هي نفسها ذبذبات الكراهية، وذبذبات الحزن هي نفسها ذبذبات الفرح، وذبذبات السعادة هي نفسها ذبذبات البؤس. يحدث لمشهد صغير نصادفه في الحياة أو نراه من خلف شبابيك غرفنا أن يوقظ في نفوسنا ذكرى مشاهد عشناها أو أمور قرأناها، كما فعل في نفسه مشهد هذا العصفور الجميل الذي راح يزيح بمنقاره الصغير قطرات المطر العالقة على ريشه. أتراه يشعر بالبرد ويهفو للدفء في هذا العالم الماطر، أيثير المطر لديه السعادة والبهجة أم يبعث في داخله الحزن، أي درب، طويل أم قصير، ينتظر هذا العصفور الذي اختار مجاورة الشباك الذي جلس الفتى بمحاذاته ليرتاح بعد طول تعب قبل أن يواصل الطيران نحو وجهته المجهولة ؟ أسعد الفتى هذا النهار الغائم، الماطر، الكسول الذي يأتي مِنةً من السماء. أن يجلس بذهنٍ صافٍ قرر أن يتحرر ولو لهنيهة من همومه، وأن يطلق العنان للمخيلة وحدها. يدع صوت فيروز يحلق في الفضاء الصغير الذي يشكل عالمه الآني، وهي تنشد عن وجهٍ يُذكر بالخريف، عن مطرٍ “بعده يبلش عالخفيف “، وأن يستحضر سوناتات محمود درويش في “سرير الغريبة” وهو يُمجدُ “حُباً صغيراً فقيراً يُبللهُ مطرٌ عابرٌ فيفيض على العابرين”، أو “حُبا يمر بنا دون أن ننتبه، فلا هو يدري ولا نحن ندري، لماذا تشردنا وردة في جدار قديم”، أو “حُباً يطيل التأمل في العابرين ويختار أصغرهم قمراً: أنت في حاجة لسماء أقل ارتفاعاً”. المطر، هو الآخر، يجعل السماء أقل ارتفاعاً، كأنها تختار أن تهبط قليلاً رأفة بالأمطار كي لا تخدشها أحجار أرضنا، كأنها تصطفي يوماً كسولاً، لذيذا مثل هذا فتهبط كأنها تحرضنا على الصعود نحوها، كما العصفور الجميل، الصغير على سلك الهاتف الذي رمقه الفتى وهو يمارس كسله قبل أن يواصل الطيران نحو وجهته البعيدة، المجهولة في الأعالي.
 
صحيفة الايام
10 اكتوبر 2009