المنشور

دروس هزيمة فاروق حسني (2-2)

في العمود الذي تناولت في هذه الزاوية قبل ما يقرب من عامين وتحديدا غداة ترشيح القاهرة لوزير الثقافة فاروق حسني إلى انتخابات مدير عام “اليونسكو” قلت انه آن الاوان لأن تعيد القاهرة النظر في النهج الذي سارت عليه طوال عقود خلت بترشيح واحد من وزارئها المزمنين إلى المناصب القيادية في المنظمات العربية أو الدولية، وعلى وجه الخصوص منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية حيث أرست القاهرة تقليدا بترشيح احد وزراء خارجيتها المتعاقبين الموشك على التعاقد إلى هذا المنصب.
فالشخص المزمن في بقائه على كرسي وزارته مهما كانت كفاءته فانه قد استنفد حتما جزءا كبيرا من طاقاته وقدراته في كرسي الوزارة، علاوة على ذلك فان اسمه سيظل مقرونا بكل المشاكل الكبرى التي واجهها اثناء تقلده ذلك المنصب، بما في ذلك اتهامه بأخطر هذه المشاكل، كقضايا الفساد والمحاباة سواء صح هذا الاتهام أم لم يصح.
ولعل هذه هي واحدة من ابرز الاشكاليات المرتبطة بمؤهلات وشخصية وزير الثقافة المصري فاروق حسني (22 عاما ونيفا في منصبه)، فكإنما مصر، “أم الدنيا”، والمعروفة بمئات أو عشرات الكفاءات الثقافية الجديرة بهذا المنصب تريد ان تقول للعالم أجمع:
“ما في البلد إلا هذا الولد”.
وكانت صحيفة “أخبار الأدب” المصرية من الصحف التي أعادت الى الاذهان ان من أسباب عدم تحمس ادارة بوش السابقة للمرشح المصري لانه “وزير لا يجيد الانجليزية، ويذهب الى مكتبه في الوزارة متأخرا ولا يمكث سوى ساعة ونصف، كما انه تجاوز الواحدة والسبعين، كما رددت مصادر امريكية، بينما تحتاج المؤسسات الدولية الى طاقات شابة”.
واضافت الصحيفة ذاتها في سياق عرضها لرؤى وانطباعات سلبية من قبل اطراف وقوى اوروبية اخرى عن شخصية الوزير حسني ان هذه الانطباعات كان لها مفعولها حتى اللحظات الاخيرة في الحملات الانتخابية الشرسة التي شنت عليه “كمتواطئ على قمع الحريات في بلاده، وكمسؤول يغازل المشاعر اللاسامية ويهدد باحراق الكتب وواجه أشرس الانتقادات في بلاده حيث يستأثر بوزارة الثقافة منذ 22 عاما، وجاء في بعض التعليقات الصحفية الفرنسية ان اندريه مالرو نفسه كان سيصبح عدو الثقافة رقم واحد في فرنسا، لو بقي في فرنسا كل هذه المدة”، (أخبار الأدب، العدد 846، 27/9/2009).
ومن المؤسف ان لا وزير الثقافة، الذي يفترض انه ملم ولو قليلا بخواص لغته العربية واساليبها البلاغية، ولا أحد من مثقفي ولغويي مصر والعالم العربي قد انبرى لغويا للأراجيف الاسرائيلية المبتذلة التي برعت فيها اسرائيل منذ انشائها بتحميل كل تصريح عربي يطلق بلاغيا على رسله محمل الجد وتحميل معناه اكثر مما يحتمل.
فحينما اطلق الوزير حسني تصريحه في برلمان بلاده دفاعا عن نفسه بأنه يسمح بدخول الكتب الاسرائيلية بأنه سيحرق أي كتب اسرائيلية لو وجدت في مكتبة الاسكندرية لم يكن ذلك إلا على سبيل المجاز والبلاغة في اللغة العربية في القطع بمنع أو مصادرة أي كتب اسرائيلية وليس حرقها حرقا فعليا بالكبريت او بأفران الهولوكوست. فشاعرنا الكبير أبوتمام يقول “الوقت كالسيف ان لم تقطعه قطعك” لكن الوقت لا يقطعنا بمعنى النحر.
ولو ان الشرطة في كل بلد عربي لاحقت كل من يهدد ابناءه او طلبته او معارفه بأنه سيقطعهم أو يحرقهم لما بقيت لها وللقضاء قضية اخرى تشغلهما غير هذه القضية ولعجزا عن المضي فيها.
وكان الكاتب الصحفي المصري انيس منصور من الكتاب العرب الذين تنبهوا لهذه الإشكالية البلاغية اللغوية التي لطالما استغلتها اسرائيل بابتذال في دعايتها ضد العرب وكتب عنها في عموده اليومي بالشرق الأوسط (عدد 21/9/2009)، في حين كان الوزير مستهدفا من اسرائيل في الاساس ليس بسبب ذلك التصريح بل لدوره، بإيعاز من حكومته، في ابعاد اسرائيل عن المشاركة في معرض الكتاب السنوي وفعالياته بمصر لكي لا يتعرض المعرض للفشل الذريع مصريا وعربيا بسبب وجود اسرائيل فيه.
والى جانب تأثير كل من العامل الدعائي الاسرائيلي الامريكي الاوروبي والعامل المتعلق بمؤهلات وسيرة الوزير حسني الادارية الحكومية اللذين تم توظيفهما في الحملة الدعائية لاسقاط المرشح المصري حسني ثمة عوامل اخرى مارست تأثيرها أيضا بدرجات متباينة، منها ما يتعلق بعدم تحرك القاهرة قبل وقت كاف في حملتها التعبوية الدعائية الدولية لحشد اكبر تأييد عربي ودولي لمرشحها، وبخاصة في افريقيا التي كان لأصوات مندوبي عدد من دولها الكفة الراجحة في تسقيط حسني لصالح المرشحة البلغارية ايرينا بوكوفا.
ومن المفارقات ان هذه الأخيرة كانت ابنة رئيس تحرير صحيفة الحزب الشيوعي الحاكم في بلغاريا الاشتراكية السابقة الدولة التي كانت متهمة بالعداء للسامية لتحالفها مع العرب ضد اسرائيل والصهيونية، ثم أضحت هذه الصحفية بعد ذلك ليبرالية مقربة للغرب، وكان من عوامل نجاحها المفاجئ في الجولة الخامسة ما لعبته الحملة الدعائية لهذه الجولة الأخيرة من دور في الدعاية للسيدة الفائزة البلغارية لترجيحها كأول امرأة تتقلد قيادة واحدة من منظمات الامم المتحدة، كما استفادت بوكوفا في ذلك ايضا من كونها ذات خبرة وجدارة ادارية داخل اليونسكو كعضو في المجلس التنفيذي، وتجيد الى جانب لغتها (البلغارية) الانجليزية والاسبانية والفرنسية والروسية بطلاقة.
ونسيت القاهرة ان من اهم عوامل فوز محمد البرادعي بمنصب مدير عام الوكالة الذرية كونه كفاءة أقرب الى التكنوقراط والتحق بها بمحض ارادته للعمل في هذه الوكالة تاركا عمله الرسمي في الخارجية المصرية قبل ان يتدرج في الوصول إلى قمة هرم الوكالة الاداري. ورغم خطورة منصب هذه الوكالة الذرية فإنه ظل متربعا عليه طوال اكثر من عقد ونيف لانتخابه بما يشبه الاجماع لعدة ولايات متعاقبة.
وأخيرا فإن الانقسام العربي وتهافت عدد من الدول العربية على المنصب، حتى لو تم التنازل بعد ذلك للمرشح المصري، ألقى بظلاله على تفكك وحدة الموقف العربي المشترك وفتور حماسة الدول العربية التي سحبت على مضض مرشحيها بعدئذ من أجل الحملة الدعائية العربية المشتركة المتأخرة لصالحه بعد التماسات مصرية مضنية وهذا الانقسام يعكس بدوره غياب التنسيق العربي المشترك في اطار الجامعة العربية للاتفاق على مرشح عربي مشترك لادارات وامانات المنظمات الدولية، لا بل نفور رغبة الدول العربية من هذا التنسيق أصلا وايثارها التفرد الذاتي أو الاقليمي.
وما لم تتعظ هذه الدول من أسباب فشل المرشح المصري فاروق حسني في انتخابات اليونسكو الاخيرة، كدروس مفيدة جديرة بالعبر، فانها كلها معرضة دوليا للمصير نفسه الذي تعرض له المرشح المصري، مصداقية لمقولة: “انما اكلت يوم أكل الثور الأبيض”.+

صحيفة اخبار الخليج
8 اكتوبر 2009