المنشور

نقض البداهة يبدأ بالسؤال

يستهل الخطاب العربي عادة بعبارات من نوع: “مما لا شك فيه”، “لا جدال أن”، “من الثابت أن”، “من المؤكد أن”، “لا يختلف اثنان”. نحن لا نقول أو من النادر أن نقول: “ربما”، “من المحتمل”، “من المتوقع”، “من الجائز”. كتاباتنا وخطاباتنا عامة من النوع اليقيني، الوثوقي، المطلق الذي لا يضع هامشاً للخطأ أو احتمالاً لسوء التقدير، لذا فدوائر الفكر عندنا مغلقة لا تحتمل إجابات أو احتمالات مختلفة، فتكلست مع الزمن وأصبحت عقبات في وجه نمو الفكر وتطوره وجدله. لا يتطور الفكر إلا بوضع كل فرضياته موضع المساءلة والشك. أما الركون إلى اليقين، أو البداهة، فانه يقصي كل احتمالات التطور ويصادر الفكرة الجديدة الواعدة المتسائلة الشكاكة التي تفتح أفقاً جديداً أو تسعى إلى فتحه على اقل تقدير، تتجاوز ما بات مألوفا ومكررا ومعتادا بصرف النظر إذا كان صحيحا أم لا. يقول رولان بارت: “أن العنف الحقيقي هو أن تقول: هذا أمر بديهي”، وله كل الحق في أن يحرضنا ضد البداهة، لأننا نستسلم لها دون إمعان للفكر في الكثير من الأمور التي اكتسبت مع الزمن صورة البداهة أو اليقين الذي يجب ألا يخضع من وجهة نظر أصحابه لإعادة النظر، ومن هنا مصدر حساسيتنا المفرطة تجاه أية فكرة مغايرة أو غير مألوفة أو يُسمع بها للمرة الأولى. ويبدو أن القول العربي المأثور: “الإنسان عدو ما يجهل” إنما انبثق من خبرات طويلة في تعامل العقل العربي مع كل جديد، قبل أن يتمعن في طبيعة هذا الجديد أو فحواه ومغزاه. تستقر البداهة في أعماق الوعي الاعتيادي اليومي الذي من طبيعته الكسل والبلادة والاطمئنان إلى مجموعة من الثوابت. وللبداهة قدرة هائلة على إعادة إنتاج نفسها، لأنها مطلوبة دائماً ولأن كلفة إعادة الإنتاج هذه أدنى بكثير من كلفة إعادة النظر التي تستثير ردود فعل مختلفة وتفسد جو الطمأنينة للمزاج النفسي العام السائد المستند على ذاكرة جمعية واعية ولا واعية في آن: واعية لأنها ترى البداهة ضرورة لاستقرار الأمور وثباتها، ولا واعية لأنها تدرك أن البداهة يمكن أن تكون، بل وكثيرا ما تكون غير صحيحة وضارة وجالبة للسوء. نقض البداهة يبدأ عادة بالسؤال لذلك فان طبيعة البداهة أن تكون جواباً عاماً شمولياً إن أردنا، فيها ردود على كل الأسئلة، فلمَ السؤال إذا ما دامت الإجابة معروفة وثابتة ومتوارثة. السؤال يحمل دائماً الطابع المفتوح، الاحتمالي، أما الجواب فسكوني، نهائي، ينتهي بنقطة بعدها لاشيء. لذلك تضيق البداهة دائما بعدد الآراء أو بالرأي الآخر، لأن التعدد يجعل الآراء جميعا على مستوى واحد من احتمال المساءلة، ولأنه لا بداهة في ظل تعدد الآراء والتصورات. إن العقل ذا البعد الواحد والرأي الواحد والاحتمال الواحد، عقل البداهة واليقين، يدفع ويُدفِعنا معه الثمن في كل شيء: في السياسة وفي معركة الحداثة ومعركة الحضارة وفي أدق كل تفصيل من تفاصيل الحياة.
 
صحيفة الايام
8 اكتوبر 2009