المنشور

المكافآت وضريبة المعاملات المالية مرة أخرى

كتبنا في‮ ‬هذه الزاوية إبان اندلاع الأزمة المالية/الاقتصادية العالمية في‮ ‬سبتمبر من العام الماضي،‮ ‬أن‮ ‘‬حليمة سرعان ما ستعود إلى عادتها القديمة‮’ ‬ما أن تعود الأوضاع إلى نصابها في‮ ‬الأسواق‮. ‬وكان الحديث‮ ‬يدور حول الرأسمال النقدي‮ ‬الذي‮ ‬أطاح بمضارباته وببدعه وفهلويته التي‮ ‬أحالت الأسواق إلى‮ ‘‬كازينوهات‮’ ‬عالمية مفتوحة على مدار الساعة‮ ‬يتم فيها اللعب بالبيضة والحجر وبجشع لا‮ ‬يحده حدود،‮ ‬ومكافآت مالية مسيلة للعاب تُصرف لمديري‮ ‬المحافظ في‮ ‬البنوك الاستثمارية‮ (‬والتجارية إلى حد ما‮) ‬والمؤسسات المالية الأخرى لتحفيزهم على مزيد من‮ ‘‬الابتكار‮’ ‬للأصول الصورية ذات الأرقام الفلكية‮. ‬وهذا مـا حصـل بالفعـل،‮ ‬فسـرعان ما عـادت‮ ‘‬رأسـمالية الكازينو‮’ ‬‭(‬Casino Capitalism‭)‬‮ ‬إلى ممارسة عادتها القديمة،‮ ‬حيث عادت الأرباح المتضخمة والمكافآت‮ ‬‭(‬Bonuses‭)‬‮ ‬الفاحشة لتسجل أرقاماً‮ ‬جديدة لدى عدد من المصارف والشركات التي‮ ‬تم إنقاذها بأموال دافعي‮ ‬الضرائب في‮ ‬أمريكا وأوروبا‮.‬
فكان لابد وأن‮ ‬يستدعي‮ ‬هذا الاستهتار بالمال العام وبالاستقرار الاقتصادي‮ ‬الحافظ للتوازنات الاجتماعية،‮ ‬غضباً‮ ‬وسخطاً‮ ‬أجبرا السلطات الحاكمة في‮ ‬دول المركز الرأسمالي‮ ‬‭-‬‮ ‬صاحبة‮ ‘‬الريادة‮’ ‬في‮ ‬هذه الخروقات‮ ‬‭-‬‮ ‬على سن تشريعات تضبط حركة رأس المال المضارب‮ (‬بكسر الراء‮)‬،‮ ‬ومنها الاقتراح بفرض ضريبة على الاتجار في‮ ‬الأوراق المالية‮. ‬وذهب بعض الحكومات والأحزاب الأوروبية،‮ ‬لاسيما الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية،‮ ‬لحد المطالبة بفرض ضريبة عالمية على كافة العمليات المالية الدولية للجم الفوائض المالية وضبط حركتها عبر الأسواق والتسبب في‮ ‬الأزمات،‮ ‬واستخدام حصيلة هذه الضريبة في‮ ‬تغطية تكاليف العجوزات المالية التي‮ ‬سببتها الأزمة المالية العالمية‮. ‬وكان جيمس توبين‮ ‬‭(‬James Tobin‭)‬‮ ‬الحائز على جائزة نوبل في‮ ‬الاقتصاد عام‮ ‬‭,‬1972‮ ‬أول من دعا لفكرة فرض ضريبة على عمليات التحويلات المالية الأجنبية‮. ‬إلا أن مقترحه قوبل آنذاك بمعارضة وانتقادات شديدة من قبل كبار الرأسماليين في‮ ‬العالم وأوساطهم الإعلامية النافذة‮.‬
ولكن الوضع الآن مختلف،‮ ‬فلقد تسبب هؤلاء بعبثهم واستهتارهم المضارباتي‮ ‬في‮ ‬أكبر أزمة مالية/اقتصادية‮ ‬يتعرض لها الاقتصاد العالمي‮ ‬منذ أزمة الكساد العظيم في‮ ‬ثلاثينيات القرن الماضي،‮ ‬فاحت خلالها فضائح المكافآت المالية الضخمة لكبار مسؤولي‮ ‬المؤسسات المالية،‮ ‬وارتفع بعدها الجدل بشأن وضع حد لهذا العبث،‮ ‬إلا أن شيئاً‮ ‬من هذا لم‮ ‬يحدث‮. ‬ولذا جاءت القمة الثالثة لمجموعة العشرين التي‮ ‬عقدت في‮ ‬مدينة بيتسبيرغ‮ ‬بولاية بنسلفانيا الأمريكية‮ ‬يوم الجمعة‮ ‬25‮ ‬سبتمبر الماضي‮ ‬لتجدد الضغط باتجاه وضع حد لهذا التلاعب‮. ‬ومع ذلك وقفت الولايات المتحدة ضد المقترحات الفرنسية والألمانية بهذا الصدد والداعية لحصر نسبة المكافآت المالية لكبار المصرفيين والماليين في‮ ‬الأرباح الصافية فقط دون‮ ‬غيرها من مسميات الأرباح الإجمالية المبتدعة بهدف تعظيم مبالغ‮ ‬تلك المكافآت من قبيل الأرباح على الأصول المباعة ونحوها‮. ‬فيما‮ ‬يتعلق باقتراح فرض ضريبة على العمليات المالية الحادثة في‮ ‬أسواق المال العالمية،‮ ‬فانه ورغم مرور‮ ‬37‮ ‬سنة على اقتراح جيمس توبين بشأنها،‮ ‬فإنها لازالت تلقى نفس المقاومة من جانب أصحاب الرساميل من المستثمرين وأجهزة الميديا المعبرة عن مصالحهم‮. ‬فهؤلاء‮ ‬يدفعون بأن من شأن فرض هذه الضريبة التأثير سلباً‮ ‬على السيولة في‮ ‬أسواق المال،‮ ‬بمعنى أنها ستحد من عمليات التداول لغرض التسييل تجنباً‮ ‬للضريبة ما‮ ‬يجعل أسعار الأصول عرضة للتقلبات‮.‬
كما‮ ‬يدفعون بأنها ستؤدي‮ ‬إلى تحايل المستثمرين عليها بأساليب ملتوية،‮ ‬كما‮ ‬يحدث في‮ ‬حالة بريطانيا حيث‮ ‬يتجه المستمثر للمشتقات‮ ‬‭(‬Derivatives‭)‬‮ ‬التي‮ ‬لا‮ ‬ينظمها القانون عوضاً‮ ‬عن الأسهم لتفادي‮ ‬دفع رسوم الطوابع المفروضة على مشتريات الأسهم منذ عصر الكينزية‮ (‬أربعينيات القرن الماضي‮)‬،‮ ‬أو هروب رؤوس الأموال إلى بلدان لا تفرض ضريبة أسهم كما حدث في‮ ‬السويد التي‮ ‬كانت فرضت ضريبة على مشتريات الأسهم سرعان ما تخلت عنها في‮ ‬عام‮ ‬1991‮ ‬عندما اكتشفت تهرب رؤوس الأموال السويدية منها عن طريق حجز طلباتهم لشراء الأسهم في‮ ‬الخارج‮. ‬ولكن ماذا لو تم فرض هذه الضريبة عالمياً‮ ‬بقرار من المنتدى العالمي‮ ‬الاقتصادي‮ ‬الأول الآن وهو مجموعة العشرين،‮ ‬بحيث تصبح ملزمة لجميع الأسواق؟
هذا طبعاً‮ ‬سيحل مشكلة هروب الرساميل إلى‮ ‘‬الواحات والجنات الضريبية‮’ ‬وتهربها بطرق ملتوية للتحايل على قانون الضريبة‮. ‬كما أنها ستقلل من إيقاعات تشكل الفقاعات في‮ ‬الأسواق‮. ‬إنه بالتأكيد ليس الحل الأمثل لإحدى المشاكل التي‮ ‬ساهمت في‮ ‬الأزمة،‮ ‬ناهيك عن المحاذير الاقتصادية التي‮ ‬ينطوي‮ ‬عليها فيما‮ ‬يتعلق بالسيولة ومعدلات نمو التجارة‮. ‬ولكنه‮ ‬يمكن أن‮ ‬يشكل عنصراً‮ ‬مهماً‮ ‬ضمن حزمة إصلاحات للأسواق المنفلتة والخارجة على الحد الأدنى الرأسمالي‮ ‬من الضوابط.

صحيفة الوطن
4 اكتوبر 2009