المنشور

الصين بعد 60 عاما من الاشتراكية

احتفلت جمهورية الصين الشعبية، أول دولة اشتراكية عظمى في آسيا وفي تاريخ العالم الثالث المعاصر، احتفلت مؤخرا بالذكرى الستين لتأسيسها، ويعد الحفل الذي اقيم في ساحتها الاشهر “تيانا آنمين” هو الاضخم تاريخيا مقارنة بكل العروض والاحتفالات التي اجريت في هذه الساحة على مدى ستة عقود في مثل هذه المناسبة، ولم يكن الاستعراض العسكري الذي جرى مجرد استعراض بروتوكولي بل يرمز الى ما وصلت إليه الصين من تطور في المجالات الصناعية والتقنية والتكنولوجية.
فقد تضمن الاستعراض الذي بثته قناة الصين العربية عرض 52 نوعا جديدا من معداتها الحربية، وظهر جنود الصواريخ الاستراتيجية النووية أول مرة في هذا العرض العسكري الكبير، وحلقت في السماء 151 طائرة صينية الصنع تحمل ذخيرة حية مستعرضة مهاراتها وفنونها التحليقية ومن ضمنها طائرة الانذار المبكر “كونج جينج -2000”.
ولم تكن جمهورية الصين تملك غداة تأسيسها سوى 17 طائرة غير صينية الصنع، كما اشتمل العرض الذي حضره زهاء 200 ألف من المدنيين والعسكريين على احدث الدبابات، ومركبات مدرعة، وصواريخ، هذا عدا العروض الفنية الاخرى.
المستوى من التطور الذي حققته هذه الدولة الاشتراكية الآسيوية العظمى وهي واحدة من اكبر دول العالم مساحة والاعظم سكانا (مليار وثلاثمائة وخمسون مليون نسمة) عبر عنه قائدها جين تاو في الحفل بالقول ما مفاده: ان التنمية والتقدم اللذين شهدتهما الصين الجديدة طوال الستة العقود الماضية انما يبرهان على صحة الخيار الاشتراكي الماركسي في إطار الاصلاح والانفتاح والتجديد الذي جرى على ايدي ثلاثة أجيال من قيادة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الحاكم، بدءا من الزعيم ماوتسي تونج مؤسس الجمهورية، ومرورا بتينج هسياو بنج ووصولا إلى جيانج تسرمين وهو جين تاو، ويعد هذا الاخير الاكثر جرأة في الانفتاح بين اسلافه قادة الانفتاح والاصلاح الذين جاءوا بعد رحيل مؤسس الحزب والجمهورية الزعيم الراحل ماوتسي تونج.
وبفضل هذا النهج الاصلاحي الاقتصادي والسياسي الذي سارت عليه الصين بخطى ثابتة منذ نحو 30 عاما اضحت اليوم البلد الأول في العالم من حيث حجم احتياطي الذهب والعملة الصعبة، وواحدة من أكثر بلدان العالم تكيفا مع الازمة الاقتصادية العالمية والاقل تضررا منها، وذلك بفضل ما حققته الصين من وتائر نمو متعاقبة خلال العقدين الماضيين.
ويمكن القول إن الآليات العسكرية البالغة التطور التي ظهرت خلال العرض العسكري انما تعكس في الوقت ذاته ما بلغته الصين من تنام ملحوظ في قدراتها العسكرية، وهو تنام تحقق بفضل المخصصات الهائلة التي تم رصدها للميزانية العسكرية، إذ تشير تقارير مستقلة إلى انها بلغت هذا العام 13% من إجمالي الميزانية العامة للجمهورية بما يعادل 69 مليار دولار أمريكي، علما بأن الناتج الإجمالي وصل في عام 2008م إلى 4390 مليار دولار.
ومما لا يخلو من مغزى على هذا التنامي المتسارع في القدرات العسكرية الصينية القلق الذي ابدته الولايات المتحدة منه، حتى ان مدير الاستخبارات الامريكية دنيس بلير وصف الصين بأنها باتت تهدد بلاده نظرا إلى ما وصلت إليه من تطور تقني الكتروني غير مسبوق في المجالين العسكري والفضائي.
وعلى الرغم من كل ما حققته الصين من انجازات هائلة في المجالات التنموية والاقتصادية والعلمية ظلت تلفت انظار العالم منذ نحو عقدين باعجاب، إلا أن ما يسجل للقيادة الصينية تواضعها في النظرة إلى ما تحقق، كما لمس ذلك كاتب هذه السطور بنفسه في لقاءاته مع كبار القادة في الصين التي سبق ان تناولناها في سلسلة من المقالات، والأهم من ذلك كما جاء على لسان الرئيس الحالي “هو جين تاو” في عشية الاحتفال بالذكرى الستين لتأسيس الجمهورية: “ان الصين مازالت دولة نامية تواجه طريقا طويلا من اجل تحقيق الاحياء العظيم الذي يحتاج إلى جهود مضنية من الشعب الصيني برمته”.
لكن هذه الرؤية الواقعية المتواضعة لما حققته التجربة الصينية من نجاحات تنموية لا ينبغي ان تتجاهلها دول العالم الثالث بوجه عام ودولنا العربية بوجه خاص وذلك للاستفادة من نموذج تجربتها في التنمية والاصلاح والتجديد وفق الظروف والخصائص الملموسة لكل دولة ايا يكن نظامها السياسي وبضمنها مملكتنا التي تربطها بالصين علاقات وشيجة في مختلف المجالات منذ 20 عاما وشهدت قفزات من التطور ولاسيما في المجال التجاري حيث ارتفع حجم التبادل التجاري بين البلدين من 12 مليون دولار عام 1989م، سنة إقامة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، إلى 780 مليون دولار عام 2008م.
ويبقى السؤال المشروع اخيرا: هل كان بوسع الصين ذات المليار ونيف نسمة ان تحقق هذه المنحزات التنموية والصناعية العظيمة التي تمت في ظل حد ادنى معقول من العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي لو لم تنتهج وتتبنى النظام الاشتراكي وان تطور تطبيقه على افق انفتاحية واقعية عصرية محسوبة؟
وهل كان بإمكان الصين ذات الاغلبية الفلاحية والتضخم السكاني الهائل الأول في العالم ان تحقق ما حققته من منجزات لو انتهجت الخيار الرأسمالي من دون ان تقع في سلسلة متوالية مستديمة من القلاقل والعواصف الاجتماعية التي من شأنها تقويض أي منجزات متحققة وتوقف عجلة التنمية؟

صحيفة اخبار الخليج
4 اكتوبر 2009