المنشور

من تاريخنا الاجتماعي.. طبعة البلاد القديم (4-4)

لربما توهم البعض ان تدوين وتوثيق الكوارث على اختلاف انواعها من طبيعية وبشرية (أي المتسبب فيها البشر انفسهم)، ومن ضمنها الكوارث السياسية والاقتصادية أو الكوارث الصناعية الناجمة عن غياب شروط الصحة والسلامة المهنية، وفي عدادها الكوارث البيولوجية والبيئية المختلفة وبضمنها الوبائية، نقول لربما توهم البعض ان هذا عمل عبثي لا طائل منه، في حين ان توثيق وتدوين هذا النوع من التاريخ هما على درجة من الاهمية، ليس تاريخيا فحسب بل حتى إذا ما نظرنا إلى الأمر من الناحية العلمية المجردة فانك، كطبيب، لا تستطيع دراسة ومعالجة الاوبئة ورصد تطورها من دون دراسة تاريخها تماما كالإلمام بتاريخ الامراض التي مر بها أي مريض، حتى لو شفي منها، وكذلك رصد التغير الاقتصادي والاوضاع التي مر بها اقتصاد أي دولة مرت بكارثة معيشية أو اقتصادية متعددة الوجوه، وكذا الحال فيما يتعلق بالكوارث السياسية المتداخلة مع الكوارث الاقتصادية والدينية والعرقية والمذهبية.
كما ان دراسة بعض الكوارث التي هي من صنع البشر هي من ادوات قياس درجة التطور الاجتماعي بما في ذلك مدى التبدل القيمي والثقافي عند أي شعب، وكذلك قياس درجة وعيه العلمي المعرفي والحضاري، دع عنك السياسي، وهذا ما ينطبق على الكوارث الطبيعية، كالبراكين والزلازل والسيول والاعاصير والعواصف والامطار، كما ينطبق أيضا على كوارث وسائل النقل الجماعية المشتركة كالسفن والطائرات والقطارات والباصات… الخ.
ومن المفارقات التي فات على مؤلف “طبعة البلاد القديم” 1949 الاشارة إليها ان هذه الكارثة تعود لاسباب بشرية محضة تتشابه مع أسباب طبعة “الدانة” عام 2006 لكن كم هو الفارق الاجتماعي في اختلاف طبيعة التسبب البشري في وقوع كلتا الكارثتين، ففيما غرق سفينة جالبوت “مخيمر” يعود لجهل الاهالي بخطورة هذا العدد الزائد في الحمولة البشرية، رغم كل ما بذله النوخذة أحمد بن علي من جهود مضنية لتقسيمهم على رحلتين فإن طبعة “الدانة” تعود في الغالب، حسب ترجيحات معظم من حللوا الواقعة، لأسباب جشعية، رغم محاولة كابتنها الاجنبي هو الآخر ثني المالك عن الحمولة الزائدة، دع عنك بالطبع الاسباب الفنية الاخرى في كلتا السفينتين، علما بأن عدد الركاب وعدد الناجين متقاربان في كلتيهما.
في مجتمع القرية عام 1949 سنة الطبعة الصغرى نرى كيف ان المجتمع القروي، ليس في البلاد القديم بل في عامة قرى البحرين، متآلف متماسك بل كيف كان متوازنا في ان يعيش في ظل معيشته البسيطة المتواضعة حياة جميلة بخيرها وشرها، بمسراتها واتراحها، كجزء لا يتجزأ من ثقافته الشعبية الدينية التي جبل عليها من دون غلو في ترجيح تقاليد اتراحها على عادات افراحها. وهكذا وجدنا ان أغلب الاهالي من الركاب الذين ضغطوا على النوخذة أحمد بن علي للركوب معه في رحلة واحدة، وان عكس ذلك جهلهم بخطورة هذا الاصرار على حياتهم وحياة جميع الركاب، إلا ان ذلك يعكس في الوقت ذاته توقهم الشديد إلى ألا يخسروا لحظات جميلة من الأنس والمتعة يتمثل في الاستماع أو الاشتراك في اناشيد وغنوات الجلوات الشعبية في وسط زرقة البحر مع نسيمه العذب بقيادة المنشديدن المبدعين الملا عبدالله أبوطاهر والمعلمة خديجة الغنامي وهي، الجلوات، التي اضحت تراثا شعبيا منقرضا.
وإذا كان يمكن ان يلتمس المرء شيئا من العذر لغياب أي شكل من اشكال الانقاذ أو الخدمات الطبية للإدارة الحكومية الفتية البحرينية إبان طبعة بلاد القديم عام 1949 وذلك لكون البحرين خلال تلك الفترة الاستعمارية مازالت في بدايات بنائها الاداري الحكومي، رغم وجود مستشفى النعيم ووجود إدارة أمنية رسمية ومراكز شرطة حينذاك، أي قبل ستة عقود خلت، فكيف يمكن عذر قوات “الحماية” البريطانية على أرض البلاد رغم علمها بالطبعة غداة وقوعها، وحيث كتب “المستشار” بضعة سطور عابرة عنها في مدونته مساء اليوم نفسه وكأنها حدثاً عادياً؟ أولم ترسل تلك القوات ذاتها طائرات من السلاح الجوي البريطاني المرابطة في قواعدها في البحرين وعدن للبحث عن أي ناجين من انفجار السفينة “دارا” التابعة للشركة البريطانية الهندية للملاحة قبالة ساحل دبي التي كان قبطانها بريطاني الجنسية وتقل 19 ضابطا؟ (انظر كتاب المؤلف نفسه، دموع على جزيرة).
تكمن أهمية مرويات وشهادات الاهالي التي سجلها المؤلف انها أدليت بصدق وعلى سجية اصحابها البسطاء من دون رتوش أو تزيين، إذ كشفت عن نموذجين نقيضين من البشر: نموذج الانانية البشرية ونموذج الشهامة الانسانية الجسور، وهما نموذجان لا يخلو منهما أي مجتمع أو أي زمن بغض النظر عن تفاوت نسبتهما من حيث الحجم بين زمن وآخر. ففي ذلك الزمن الجميل الذي تغلب عليه كما يفترض نزعات الخير والشهامة والمروءة الانسانية وخاصة خلال الملمات رأينا بعض نماذج من الركاب الذين فروا سباحة وغوصا بجلودهم أثناء الطبعة لكي لا يقوموا بواجبهم الانساني، مهما تكن الصعاب والمخاطر، لنجدة أضعف الركاب ألا هم النساء والاطفال وهم يصارعون سكرات الموت غرقا. هذا في الوقت الذي وجدت نماذج مشرفة آثرت انقاذ حياة بعض الركاب حتى لو عرضت حياتها للخطر، علما بأن بعضهم تعرض بعدئذ للضرب من الأهالي رغم بلائهم بلاء حسنا. وهذا مما يعكس أيضاً جانبا من الجهل الاجتماعي بعدم السيطرة على العواطف وطغيان شكل من اشكال ردود الفعل الموتورة العنيفة للانتقام البدائي من دون تبصر، ورأينا أيضا هروب بعض اصحاب القوارب الصغيرة وسط البحر من الاقتراب من موقع الطبعة.
على النقيض من ذلك فانه في عصرنا الحالي الذي يغلب عليه التبدل القيمي والانانية وجدنا مجتمع القرية في الدير وسماهيج تهب كثرة من شبابه لانقاذ أي ناجين محتملين في كارثة طيران الخليج عام 2000، من دون أي تفكير بنوع الطائرة أو من يكون ركابها، ووجدنا في العراق سباح الاعظمية الماهر الذي ضحى بحياته لانقاذ الكثير من غرقى كارثة جسر الائمة من دون التفكير بانتمائهم المذهبي وذلك في ذكرى وفاة الكاظم “ع”.
وأخيرا فإن كتاب “طبعة البلاد القديم” هو من الكتب المهمة القيمة التي تؤرخ لصفحات مجهولة من تاريخ كوارثنا الاجتماعية المعاصر، آملين ان يوفق المؤلف في أن يتبعه بالمزيد من الكتب التاريخية حول الاوبئة ومآسي المرضى وتاريخ الخدمات الطبية في البحرين، وآملين أيضا ان يتمكن في مؤلفاته القادمة من تلافي بعض الهنات البسيطة في الكتاب الاخير، كالاخطاء النحوية والمطبعية، وكغياب الهوامش، وكالتوسع في الموضوعات الجانبية الاخرى التي لا صلة مباشرة لها بجوهر الموضوع، وكعرض الكثير من الصور التي لا لزوم لها في سياق متن الكتاب وفصوله.
وإذ نشد على يده بحرارة على هذا الانجاز العلمي والوطني الرائع لنتمنى له المزيد من النجاح في أعماله القادمة.

صحيفة اخبار الخليج
1 اكتوبر 2009