المنشور

الدين والنسبي

كما احتاج الإنسان إلى ما يشده للمطلق من صور وعقائد وحبال قوية تربطه بالوجود الأساسي الباقي، أحتاج أيضاً إلى ما يغير عيشه وحياته الصعبة.
ومهما كانت عقائد المصري القديم غامضة وغريبة ومركبة فإنه أحتاج وهو ينتقل للعالم الآخر إلى العيش “القمح” ومواد الغذاء المختلفة لكي يبقى هناك، فلم يتصور الحياة الباقية تخلو من الخبز واللحم وأدواته المختلفة.
ولم يتصورها العربي البدوي بعد ذلك أن تخلو من الجواري الحسان والأنهار والعسل والثمرات والخمرة التي يحبها كثيراً وتفتقرُ إليها جزيرته الصحراوية الخالية من المياه ومن أدوات التسلية.
مهما كانت الأديان مطلقة وسرمدية فإنها لابد أن تنظر إلى الإنسان الباقي المؤثر وهو الإنسان الكادح.
من صنع العقائد على الأرض النسبية هم الكادحون. وفي حين أن الملوك والأغنياء وبعض المثقفين العاملين لهم لا يؤمنون حقيقة بالعقائد إلا كأدوات حكم وسيطرة، فإن الكادحين يؤمنون بها بشدة.
لم يكن يتاح لهؤلاء الفقراء والعبيد أي فرص للتفكير المنطقي والسببي، فكانوا أدوات حقول وحرف وأشياء مرتبطة بالحيوانات والمواد الدنيا، ولم يكن للعقائد والأفكار المنتجة من قبل الملوك والمثقفين أن تبقى من دون أن تدخل عقول هؤلاء الكادحين المغلقة والصماء.
مهما كانت عظمة الفتوحات التي يقومون بها، والمستعمرات والأراضي الزراعية التي يستولون عليها، وغابات الجواري التي يستثمرون فيها فحولاتهم القوية، فإن الغذاء لا يمكن أن يصل إلى معدهم “معداتهم”. ولا يمكن للبيوت أن تـُنشأ والقصور أن تـُبنى وللمثقفين العاملين لديهم أن يفكروا ويقيموا فلسفاتهم المحلقة في الفضاء من دون الغرف والطاولات والمحاصيل التي يصنعُها أولئك “البهائم” التي تعيش في الحقول والمحاجر والمشاغل.
الإنشاءات الفكرية المجردة والأساطير الراقصة في الكون تتوقف في نهاية المطاف على ذلك “الحيوان” الرابض في الكوخ الحقير وعلى العفاريت الصغار الذين يجودُ بهم على الأشغال والجيوش.
إذًا لابد للأديان أن تراعي مستواه العقلي الفج، ومن دون تصويته عليها في صندوق التاريخ فإنها تزول، ومع تصويته عليها تتبدل، وتشتعل وتقود.
فكانت الصورة هي السائدة في الإنشاءات الدينية، وكانت البساطة، والخرافة والأساطير والقصص والحكم، والجملة المعبرة السهلة، والقوانين المنشأة في ظل تلك الظروف، وكان الأنبياء رعاة وكادحين ومثقفين، كانوا من هذا الرعاع البائس الملغى من تاريخ السادة والملوك، وتاريخ الامتيازات.
وحين يتحذلق بعض المثقفين المعاصرين ويكتشفون في الكتب الدينية نظريات علمية ومعادلات رياضية وفلسفات طبيعية يسخرون من التاريخ، فقد كانت الكتبُ الدينية حواراً من الأنبياء مع بسطاء عصورهم، وتوجيهات وأمثولات وحكماً في مستوى أولئك الماشية البشرية التي وضُعت في الحظائر السياسية والتي تترقى معها فكراً وعملاً وتغييراً، فاللغة الدينية مساوقة للفعل الكفاحي.
كانت النضالات تلك تستهدف تحريك الكادحين لكي يصنعوا التاريخ، فإضافة إلى ما كانوا يصنعونه من أسرةٍ ومناجل وبيوت، كان عليهم أن يقوموا بالمعارك ويبنوا الأمصار الجديدة ويقتحموا الأرض المباركة وينشئوا الدواوين والقصور الجديدة.
هناك من يرتقى من أولئك الكادحين، الاحتكاك بالأنبياء والحركة التاريخية يجعله مثقفاً، وينفصل عن زملائه السابقين، وتحدث عملية تاريخية صاعدة، لكن العاملين لابد أن يستمروا، لأن الحروب يمكن أن تتوقف، والنبوات ألا تتكرر، لكن حصاد القمح لابد أن يستمر، ومقاومة الشتاء وصنع المساكن وقطع الخشب لابد منه.
يظهر كادحون جدد، أناسٌ من ضحايا الحروب ومن العبيد، ومن العاملين في الزراعة، ويصير بعضُ الكادحين السابقين سادة وملاكاً، وينسون تاريخهم الكفاحي الماضي.
وتظهر لغة دينية ذاتُ مستويات متعددة متباينة كثيرة، تغدو مركبة، فتـُنزع بساطتها الأولى الكادحة، وصورها الشعبية ولغتها الأسطورية العامية، وتـُوضع في مستوى آخر، تحتشدُ حوله القواميسُ والموسوعاتُ التي تضفي عليه دلالات لا تنتهي، تصبحُ معقدة، ومقيدة، ومندفعة جارفة، وخاضعة لنزواتِ السادة والحكام الجدد في المركز الامبراطوري وفي الأقاليم المحكومة بذلك المركز، التي تقومُ هي الأخرى بتكوين تفاسير مختلفة توافق هواها السياسي في لحظات البقاء في الامبراطورية أو في لحظات التمرد والانفصال عنها، وتقوم الفئاتُ الوسطى من مثقفين خاصة بإيجاد تفاسير مغايرة مختلفة، تعبرُ بها عن هواها الاجتماعي وأحلامها، أو مباركتها للحكومات المطلقة التي تلقي عليها بعضَ الفتات، مثلما تلقي على أقرانها من شعراء ومؤلفي كتب، ويظهر فقراءُ آخرون مدقعون عاملون في الأراضي الزراعية يذكرون ببناة الأهرام الذين لا يجدون سوى الخبز والثوم غذاءً، ويمتلكون الجهل الثقافي نفسه والقوة التاريخية عينها.
ويبقى بدو الجزيرة في نصوصيتهم الحرفية فيما يمضي فلاحو الأراضي الزراعية المدقعون يمتلئون بالتفاسير الأسطورية الجديدة التي تغذيها الكواكب والنجوم، ليمزقوا الخرائط السياسية في حراك تفتيتي طويل وعميق.

صحيفة اخبار الخليج
1 اكتوبر 2009