المنشور

أقوى من الفولاذ وأرق من النسيم


 

 


 


لم يكتب نيكوس كزانتراكيس روايته الشهيرة”زوربا” من وحي الخيال، حتى وان كانت المخيلة قد غطت مساحة واسعة فيها. فالرواية لم تكتب إلا على خلفية لقاء الكاتب مع زوربا الحقيقي على السواحل الجنوبية لليونان، حيث كان هذا الأخير يعمل في قطع الأخشاب.

عن هذا اللقاء قال الكاتب الشهير الذي ذاع صيته في بلده اليونان وفي العالم: “لقد تعلمت من زوربا حب الحياة”. ويعرف الذين قرأوا الرواية أو شاهدوا الفيلم المأخوذ عنها أنها كانت نشيداً مفعماً بحب الحياة، بالمغامرة، وبالرغبة في الاكتشاف وعدم الاستكانة للأمر الواقع. ومنذ سنوات قليلة صدرت ترجمة عربية لكتاب” تصوف” للكاتب نفسه، والكتاب الذي لا يقع في صفحات كثيرة ينتسب إلى المرحلة التي كان فيها الكاتب لما يزل شاباً.

يفرق النقاد والباحثون في سير وأعمال الكتاب والفلاسفة والمفكرين عادة بين مرحلتين على الأقل في حياة هؤلاء، مرحلة الشباب ومرحلة النضج، وهو تفريق ليس تعسفياً، فالكاتب والمفكر هو نتاج سيرورة فكرية وإنسانية متصلة يخضع فيها لتغييرات وتعديلات في رؤاه ومفاهيمه، وإذا كان الباحثون يتوخون التركيز على الأعمال الأخيرة لأي كاتب بصفتها كتابات ناضجة، فلأنهم يرون في كتابات الشباب بذرة أفكار هذا الكاتب، والمكونات الأولى لرؤيته للحياة، وللعملية الفكرية الإبداعية ذاتها. “تصوف” نيكوس كزانتراكيس ينتسب، إذاً، إلى المرحلة الأولى من حياته ككاتب، لذا نجد فيها كل روح التمرد والإقبال على الحياة التي طبعت أعماله اللاحقة، وما كان له أن يتعلم حب الحياة من قاطع الأخشاب على السواحل الجنوبية في اليونان، ويكتب عنه تلك الرواية العذبة لو أن الكاتب نفسه لم يكن مهيئاً لان يلتهم تفاصيل هذه الحياة ويتشربها قطرة قطرة، عبر ما يدعوه بالممارسة، التي هي هنا قرين التجريب والاستكشاف والتعلم. الممارسة، بكلماته، هي الوسيلة الوحيدة التي تستطيع الإجابة على أسئلة القلب، وهي أسئلة نابعة من تحديد اللامحدود، بأن نملأ دورة حياتنا برغبات ومخاوف ومناشط، وأن نتوسع حتى نبلغ الحدود، وألا تعود هذه الحدود تسعنا، وأن نتشقق ونتحطم، وهكذا نفعل فعلنا فنزيد الجوهر ونوسعه.

والكاتب الذي يختار لكتابه هذا العنوان، لا يفعل ذلك عبثاً لأنه قادر على تحويل الملموس إلى مجرد، إلى مقولة فلسفية، ويرى الحياة كما هي من لحم ودم في هذا المجرد:” النجمة تموت لكن الضوء لا يموت”، لذا فانه يحثنا على النضال من خلال اللقاء المؤقت للقوى المتناقضة الذي يشكل وجودنا، لكي نبدع أقصى ما يستطيع الفاني في هذا العالم: أن نبدع صيحة. وهو هنا، كما في كل مواضع الكتاب، لا يترك الأمر غامضاً، فهو يُشخص تلك الصيحة بوصفها عُشقاً جارفاً يعبر الكون. انه كالأثير أقوى من الفولاذ وأرق من النسيم، انه عشق يقتحم ويعبر كل شيء يذهب وينعتق، لا يخلد للراحة على المواقع الدافئة، ويقتحم الروح ويُظهر رغبته في التوحد معها،” فلا نوجد أنا وأنت، لأن العشق يدفع البشر بقوة، في اللحظات الحاسمة، ليلتحم بعضهم بالبعض الآخر”.

“تصوف” نيكوس كزانتزاكيس يحمل بذرة تمرد هذا الكاتب وسر عذوبته. انه تأملات فلسفية في الحياة والحب والنفس البشرية مكتوبة بلغة مخاتلةٍ تستدرجنا نحو أسرها الساحر بكل سلاسة .