المنشور

جرعة خفة.. جرعة رصانة

يوضع الترفيه دائماً في مقابل الثقافة، كوجه نقيض لها، ويكثر الحديث عن أن الناس تريد الترفيه والتسلية ولا تريد البرامج الجادة، ومع الوقت نشأت سيكولوجيا لدى أوسع القطاعات بأن الثقافة تعني الصرامة والتجهم وثقل الدم، أما الترفيه فهو كما يشي التعبير يعني تجزية الوقت بما هو مسل دونما بذل جهد ذهني أو محاولة شحذ الذهن في التفكير بأمر من الأمور. ويذهب المتحمسون للترفيه للقول: يكفي الناس ما في هذا العالم من مآس وبواعث خيبة، وأن من حقهم أن يرفهوا عن أنفسهم بوجه ما في هذا العالم من مصائب، ويدللون على ذلك بإقبال الجمهور على البرامج التلفزيونية الترفيهية. والواقع انه سيكون من التجني أن ننكر على الإعلام حقه في ان يكون ترفيهياً، وسيكون تجنياً أكبر أن يحرم الجمهور من إعادة الترفيهية. ولكن السؤال هو: لماذا الافتراض ان الثقافة هي نقيض الترفيه؟ برأي باحث عربي أن الثقافة هي أرقى صنوف الترفيه، وأن أكثر البرامج اجتذاباً للأطفال هي البرامج العلمية التي تظهر حيوانات الغابة أو البرامج الموسيقية وما إليها، وهي تضم العنصرين الترفيهي والتثقيفي في آن، وبرأيه انه ليس من تناقض بين الترفيه والتثقيف إلا حين يبتذل الترفيه فيهبط الى درج التهريج. والواقع أن فلسفة التلفزيون المختص بالترفيه وحده، كما يشير الباحثون ظهرت أول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية، غير ان هذه الفلسفة بما يدعمها من مستوى فني استطاعت ان تهيمن على السوق في أغلبية البلدان النامية بما فيها بلداننا العربية. ولكن حتى البلدان التي نرميها نحن بأنها مجتمعات استهلاكية وبأنها منتج غزير لبرامج الترفيه التي نعرفها أو نقلدها. ثمة اهتمام ملحوظ بالبرامج التربوية، حيث تضغط الأجهزة التربوية مدعومة من قبل الهيئات التشريعية والخيرية والحقوقية من أجل تخصيص موازنة كافية لإنتاج مثل هذه البرامج. وعلى سبيل المثال فقط فإن بريطانيا تخصص 20% من مواد التلفزيون للبرامج التربوية، والسويد تدرس منذ ستينيات القرن العشرين مادة النقد الإعلامي، وفرنسا أدمجت وسائل الإعلام في المواد التربوية بهدف وضع مسافة نقدية بين التلاميذ والطلبة من جهة، والإعلام خاصة في قسمه الإعلاني من جهة أخرى. ليست هذه دعوة الى الصرامة والتزمت والتجهم والجفاف، وليس الى تقديم المادة الثقافية في أطباق منفرة، إنها دعوة الى التفكير في إيجاد صيغة تجمع بين الترفيه وبين الرقي بوعي المشاهد وذائقته، وهما ممكنان معاً. وإذا لم يجتمعا فذلك يعود الى عجز معدي البرامج لا لتعذر الجمع بينهما. وتحقيق هذه الصيغة مهمة تتطلب الموهبة والابداع والتفكير الخلاق، وهي عناصر ضرورية لتقديم بديل مشوق ومفيد لهذا الغث الذي نشاهده ونحن نتجول بين الفضائيات العربية، التي تستفز أذهاننا وذائقتنا بجرعات زائدة من الخفة.
 
صحيفة الايام
22 سبتمبر 2009