المنشور

«الرتبة» وحكمة الماضي (2-2)

إنسان القرية ومجتمع البحارة، هم بطبيعتهم يتمتعون بلغة مباشرة وسهلة كسهولة الحياة والمحيط الاجتماعي. وبما أن الأمهات قابعات في بيوتهن ولا يعرفن السوق فهي من مهمات الرجل “أما هي فان عليها إعداد كل شؤون البيت” وكل محيطها الذي تتحرك فيه هو الجيران والحي الأقرب بمساحته، فعادة كلما كان الحي صغيرا كانت العلاقة مباشرة مع كل الجيران وكلما كان كبيرا، فان العلاقة تتقسم بين مناطق جغرافية بتعبيرات “أهل جنوب ( ينوب) وأهل شمال أو شرق وغرب، وبعضهم إذا ما كان الحي يتميز بطبيعته العمودية أو الطولية كما نقول فان أهل وسط أيضا يرددها المجتمع”. غير أن هذا لا يعني انك لا تعرف جزءا من كل تلك الأقسام فعادة يحدث إن اهلك يعيشون في الضفتين، الضفة الغربية والضفة الشرقية ( بدون القدس ولا الجدار العنصري) ومن الاستخدامات المجتمعية عادة للطبوغرافية السكانية فان الناس يستخدمون عبارة أهل فوق وتحت أو ناس فوق وناس تحت، وهكذا نمت المدن الحديثة أو عبارة المراكز والأطراف، فمنذ ذلك الوقت كانت الأنشطة تتركز في مركز المدن الجديدة فيما الأطراف فقيرة بلا أنشطة ويذهب الإنسان من الأطراف للمراكز لقضاء حاجاته الرسمية وتبضعه وثقافته وتعليمه. لهذا حينما نذهب لكل الثقافات بل ولكل المدن والقرى في العالم سنجد في قاموسها المدني والشعبي مثل عبارة “الداون تاون down town” او السنتر. وطبعا البحرين الصغيرة كانت لها أيضا تلك المصطلحات. والمسكين من الريف أو القرية كلما فتح فمه للجيران متفاخرا أو زوجته لكي تغيظ النساء غريماتها أو تعلن عن مجدها الزوجي، فان لسانها لا يتوقف عن إن زوجها سيذهب للسوق وسيشتري لها مترين من قماش الحرير الجيناوي ( الصيني ) هذا هو حدود ثقافتها أما هل هذا صحيح أو خطأ فلا يوجد شجاع لتصحيحها يوم ذاك. لهذا تعاملت الأمهات الطيبات مع العملة والشراء والبيع بطريقة “الرتبة” قد تكون بخطاب واساليب مختلفة ولكنها تؤدي الغرض نفسه، في زمن لم تتكاثر فيه الدكاكين والبقالات كما هي في يومنا، وإذا ما فتح أعمى دكانا فإن كل بضاعته مع رفوفه الثلاثة المغبرة ست علب من الطماطم من الحجم الصغير مصنوع في الهند أو الصين ودزينة أناناس (عناناص) وخوخ وكرز تستنجد بها النساء إذا ما فاجأهن زائر عزيز عليهن، ولا يجوز عدم استضافته بالروتين من الموجودات، باعتبار إن التمر والقهوة من مستلزمات يومية للاستخدام، فاركض يا حمود وقل لعبدالله، وإذا ما تلعثمت وسألت أمك من يكون عبد الله صرخت في وجهك “من بعد عبد الله يا المفعوص وراسك في التنبه! عبدالله العمي راعي الدكان، قل له أمي بتسلم عليك وتبقي سلف منك قوطي (علبه) أناناس وخوخ وإذا ما عنده خوخ اخذ منه الحمر” (ولم يكن النساء يعرفن فاكهة الكرز وبعد مدة عثرن على تسميته ولكنهن لم يقتنعن به ومكثن يرددن ’’الحمر’’ وكنت يومها أحب الكرز فهو مثل التيله فماذا افعل غير أن اتخابث على خالتي عائدا به للبيت قائلا: ما عنده إلا الكرز والخوخ. وبما أنني اعرف إن الخطار/الزوار القادمين فجأة لن يلهفوا الصحنين، فان فرصة التهام الكرز ذلك اليوم عيد وفرح. وطبعا كانت لكل زيارات الماضي البعيد لها معنى ودلالات، فالمرأة لا تغادر بيتها إلا لتقديم التعزية أو خطبة ابنة احد الأقرباء أو غيره. هذا الواقع الصعب من حيث البيع والشراء، كيف حلت “الرتبة” جريدة النخل وحفرها إشكالية قائمة بين الطرفين ولمدة خمسة عشر يوما، فبعدها يتم الدفع لكي يبدأ الخضار من جديد الحفر في جريدته. وواثق شخصيا إن لا احد في البحرين احتفظ بجريدة في بيته كذاكرة حقيقية، وان كانت معارض التراث بإمكانها فعل ذلك بكل سهولة، ولا اعرف إن كانت تلك المتاحف الشعبية لدينا عرضت ذاكرة تلك الجريدة والعلاقة الاقتصادية بين البائع والمشتري، حيث لم تتوفر العملة يوميا ولا يوجد كردت كارد. أما لماذا تم توقيت الجريدة بخمسة عشر يوما أيضا، فلذلك حكاية وحكمة يومية، إذ عندما انخرط الغواصون والبحارة للعمل في شركة النفط كانت الشركة تدفع لهم أجورهم في أغلفة بيضاء وبنية أجورهم، عندها تكون تلك الأمسيات حفلات صاخبة، فكلما عددنا الخمسة عشر يوما أي الأجر كل أسبوعين وعادة يتم دفعها لهم كل يوم خميس، فان الفرح له معنى ورائحة الأشياء لها معنى وللمشموم معنى ولدقات الدف ورنة العود معنى وللثياب المبخرة أعظم المعاني، فيا لها من ليلة من ليالي الزكرته!! فقد كان ابن عم أمي كريما وازكرتي ومن النوع المشهود وقد كان يعمل في الشركة فكانت ربع الروبية التي احصدها عالما لا يمكن تصديقه. يا جماعة الخير ربع آنه قبل نصف قرن !! لا استطيع أن أقول – وبعد تنهيدة عميقة – لذلك الإنسان إلا عبارة بيتك في الجنة يا عليّ الحسيني حتى وان كانت ذنوبك لا تحصى ولم يسعك القبر – كما يقولون – من تلك الذنوب. وحقا كان يستحق لقب عنتر (اسمه الشائع في الحي علي عنتر). ومع دخول شركة النفط عرفت البيوت بالتدريج العملة وعرفت عدها وتعلمن النساء الأميات كيف يفصلن بين كل الحدود الجزئية للعملة وكم تساوي مع كل علبة يشترينها من الخباز وراعي الدكان، حيث تكاثرت الدكاكين وتكاثرنا نحن وتغيرنا وتغير وقتنا ومعمارنا وكل خيط في ثوبنا، وغزتنا روائح باريس ونيويورك ولندن وروما، وصرنا أكثر بعدا عن بومباي وبضائع الصين الرائجة لدينا حينذاك. لكم كانوا الانجليز تجارا جيدين ووسطاء جيدين وخبثاء وماكرين في بضاعة السياسة إلى ابعد حدود جودة بضائعهن القديمة، الزبدة والبطاطس.
 
صحيفة الايام
22 سبتمبر 2009