المنشور

«الرتبة» وحكمة الماضي (2-1)

مفردة الرتبة (بكسر الراء) ربما لا يعرفها جيل كامل في البحرين ولا اعرف إن كان المجتمع الخليجي الزراعي كالعين أو غيرها من مزارع عمان والجميرة ورأس الخيمة والقطيف وعسير، وغيرها لديهم مفردة شبيهة بها وتقوم بنفس المهمات ولنفس الوظائف المجتمعية والحاجات الاقتصادية اليومية لواقع بسيط ومعاش. وبما أننا نود التحدث عن مجتمع أكثر تحسسا لي ولطفولتي حيث كنت أراها بأم العين لذلك المزارع »الجوال القادم من الريف« البائع – بمعيار زمان أول – وبما أن الخبرة والتجارب اليومية لحياتنا مهمة وبحاجة للتدوين المستمر، فان الضرورة تدفعني لتسطير هذه التجربة المتواضعة لمجتمع أمي يجهل القراءة والكتابة، بين حالة مشتر لا يملك معيار الشراء وهي العملة النقدية، ولا بائع يملك أيضا معاييره النقدية وموازينه في تقدير كل الحاجات المحيطة به . وبما أننا نتحدث عن مجتمع للوراء عمره نصف قرن، لطفولة جميلة حيث كانت البراءة أجمل ما فيها شقوتها تحت مطر يزخ ونساء يبحثون عنك، فلم تكن أمهاتنا كالأمهات المتمدينات حاليا اللاتي يخفن من الروماتيزم والزكام والكحة وكل أمراض التدرن الرئوي ، لمجرد انك غرقت في ماء مطر يتيم وعابر يترك خلفه نقع ووحل هنا وهناك، وفي أزقة ملؤها الصغار بصراخهم، ولمدارس أغلقت أبوابها بفصول دمرها المطر، ويا لبؤس أسقف المدارس وطينها !! ما تعرفه أمهات الأمس مجهول عما تعرفه بنات اليوم المتمدنات والخائفات من كل شيء، فإذا خرجت من البيت لا تقول لك أمك إلا مفردة واحدة »خال بالك على نفسك وليحفظك ربي« إذن أنت بت في يد أمينة فلا تخاف وهذا ما جعلنا لا ندخل في تيه الأمراض النفسية الحديثة كأطفال اليوم . وبما اننا عشنا مع الظلام والمطر والرعد وكل الأباليس وقصصهم فإننا أيضا عشنا مع حداثة جديدة عرفها مجتمع النفط المبكر والتعليم الحديث، فكان علينا التأقلم مع بنية مجتمعية متناقضة، إلى حد تناقض الحفر المتراكمة في شوارع إسمنتية حديثة لم يعمرها مقاول غشيم في ذلك الوقت، ومع التعلم المستمر بين الحداثة والتقاليد، ترعرع جيلنا، ولكن أمهاتنا كان عليهن تقديم مبالغ الشراء لرجل غريب من خلف سواتر الباب المفتوحة ضلفته فقط والوجه المغطى بطريقة اقل تشددا وتزمتا من وقتنا هذا، فـ “صفكة” الباب مشرعة للجيران والأهل فلا غرباء من حولك حتى تخاف وربما لم تعرف أبواب الأمس مفردة »القفل« إلا لصناديق الحج الحديدية القادمة من بومباي. فهل بإمكاننا تعريف علمي لمعنى كلمة »الرتبة«؟ سأحاول جاهدا تعريفها لعلني أصل بشكل اقرب للقارئ . هي مفردة لمعنى عقد شراء وبيع بين طرفين كان يتم في الأحياء الشعبية عندما تشتري النساء حاجياتهن من الخضراوات والفواكه من البائع الجوال، إذ تقوم المشترية (النساء) بتقديم جريدة نخل نظيفة أزيلت منها سعفها كاملا، فيقوم هو بسكينه حفر حفرة واحدة لكل عينة من عينات اشترتها المرأة، ولكي لا يتوه في أسعاره المختلفة في حفر عدة، فان كل البضائع تكون متقاربة بل يجعلها في تسعيرة واحدة بجمع أكثر من عينة معا لتكون ضمن سعر واحد لا غير ولنقم على سبيل المثال بطريقة الشراء والبيع »الرويد بربع آنة زائدا اللوز الموزون أو المحسوب بربع أيضا صارت نصف آنة معاه بربير صرة واحدة أو صرتين فلك يا ام محمد بلاش ها الصرة خليها بربع الربع «المهم يبدأ كل شيء بهذه الطريقة حتى يصل إلى حفرة واحدة أو حفرتين سعر الحفرة كاملة بآنة واحدة وأحيانا بروبية واحدة، ولكي لا يغشها تبدأ بعد أن يذهب بعد حفرها في الجريدة فبالأمس كانت لديها ثماني حفر واليوم صارت تسع »يعني الحساب ما في غش« ومع الأيام تكتشف النساء علاقتهن بذلك الرجل أنها جيدة إلى حد يصبح من المؤتمنين عليه للدخول للحوش ومجالسة النساء فكلهن يعرفنه ويعرفهن، ويتناول قهوة الضحى معهن حيثما صادف البيت وعادة يوقت مروره على الجيران لكي ينتهي في لحظة ما عند بيت اعتاد فيه المؤانسة الاجتماعية والإنسانية، إذ لا يجد الناس قديما أمرا يدفع للغضب حينما يسأل “البقال” ( البقال في البحرين هو الشخص الذي يبيع الخضراوات بعربته أو حماره دون عربة والقادم من الريف الزراعي ). فكثيرا ما يسأل أم فطوم بعد أن يعرف أن ابنتها تزوجت ومضى على زواجها أسابيع بترديد عبارة بسيطة وهو يرتشف القهوة “ان شالله يا أم فطوم بنتج تجيب جدتها” مثل تلك الجمل اليومية لا تعني شيئا بين الناس ولا تعتبر في دلالاتها فخاخ وحيل اجتماعية كما يقوم بها الرجل المعاصر، فالحياة كانت ابسط مما نتصور نحن اليوم عليه، والخطاب اليومي الساخر كان تعويضاً عن المتعة الحياتية .
 
صحيفة الايام
20 سبتمبر 2009