المنشور

أسوأ ما فينا

الأشياء، تكاد تكون كلها، قابلة للانقسام إلى نصفين، والنصفان إلى أربعة وهكذا دواليك. حتى الأشياء متناهية الصغر كالذرة هي الأخرى تنقسم، ولكن مع ذلك فليس كل نصف هو مجرد النصف الثاني المكوّن للشيء. هناك أنصاف هي في الحقيقة نقض أو نفي للشيء نفسه. وأسوق هنا ثلاثة أمثلة، على الأقل، من أنصاف الأشياء التي تناقض الشيء كاملاً في جوهره ودلالته. المثل الأول هو أنصاف الحلول، كأن نسعى لحل مشكلة فنقوم بمعالجتها جزئياً، بنصف حل أو بربع حل. ما نفعله حقاً ليس خطوة على طريق الحل الجذري أو الشامل أو المتكامل، وإنما هو مجرد إعاقة لهذا الحل، لأن نصف الحل هو تمويه على جوهر المشكلة الحقيقي، هروب منه إلى بعض مظاهر المشكلة عوضاً عن حل أو معالجة أسبابها. لدى الكثيرين رأي آخر يقول إنه إذا استعصت المعالجة الجذرية للمشكلات، فإن الحلول المؤقتة أو الجزئية ضرورية. ولكن هذا القول لا يخلو من المغالطة إلا إذا كان ذهن من يتصدى للمشكلة يعي جوهرها ويعمل على إيجاد الحل النهائي، الجذري لها، وريثما يتعين ذلك يقوم ببعض حلول التهدئة أو التخفيف من الأعراض، شأنه في ذلك شأن الطبيب الذي يعطي مريضه مسكناً من الألم رغم إدراكه أن العلاج الجوهري للعلة يكمن في دواء آخر. مشكلتنا أننا حتى لو وعينا أن ما نقوم به ليس سوى نصف حل أو حل مؤقت، سرعان ما ننسى ذلك ونتعامل مع الألم النائم بسبب المسكنات على أنه قد زال، فما أن ينتهي مفعول المسكن حتى تضج الآلام من جديد مذكرة إيانا بأن المشكلة ما زالت أبعد عن الحل. المثل الثاني هو أنصاف المثقفين، وهؤلاء لكثرتهم في مجتمعاتنا، لأن أعدادهم هي أضعاف عدد المثقفين الحقيقيين، باتوا يشكّلون همّاً ومشكلة حقيقية لأنهم يقودون إلى خراب الثقافة أكثر مما يسهمون في تطورها. شبه المثقف أو نصف المثقف هو في الغالب شخص دعي يسبغ على نفسه من الأوصاف والمدائح ما هو غير جدير به، وله في كل عرس قرص، أما المسافة بين المثقف ونصف المثقف فليست كالمعادلة الرياضية واحد – نصف = نصف، إنما هي كالمسافة بين الثريا والثرى، لأن المثقف قرين القلق والبحث الدائم والسؤال عن الحقيقة، أما نصف المثقف فهو قرين الإدعاء والتبجح الأجوف والوجاهة الزائفة. المثل الثالث هو نصف الحقيقة. ولفت نظري في كتاب قرأته منذ سنوات لعالمة نفس أمريكية تشير فيه إلى رسالة استلمتها من صديقة لها أشارت فيها إلى وقائع معينة حدثت لها، لكنها، أي الوقائع، لم تكن سوى نصف الحقيقة. تقول المؤلفة: إن الصديقة لا تكذب، لكنها لا تقول كل شيء، ونصف الحقيقة هنا يحبط المرء لأنه يتصور أنها الحقيقة الكاملة. وتضيف الكاتبة: “إن هذا يمثل أسوأ ما فينا”، لأنه يرمز إلى نوع من الإنكار المضلل والمؤذي. وللأسف فإن الناس إما أنهم غالباً ما يمارسون هذا النوع من التضليل أو أنهم ضحية له، ربما بسبب أن الحقيقة كاملة هي مُرّة دائماً.
 
صحيفة الايام
19 سبتمبر 2009