المنشور

الإسلام والضوضاء

إذا ما نحينا جانبا الأمراض الوراثية التاريخية والمزمنة فمن نافلة القول إن جل الأمراض والأوبئة المعاصرة التي تصيب الإنسان ناجمة عن التلوث بكل أشكاله، بدءا من تلوث الهواء بثاني أكسيد الكربون وثاني أكسيد الكبريت وأكاسيد النتروجين وأول أكسيد الكربون، ومرورا بتلوث الهواء بعادم السيارات والرصاص والضباب الدخاني والشوائب والأمطار الحمضية، وليس انتهاء بتلوث المياه بمختلف أشكال التلوث من مخلفات وبقع زيتية ومياه صرف وغيرها.
ومع ان التشريعات وآليات الرقابة والضبط والعقوبة والمحاسبة إزاء ظواهر وأشكال التلوث المتقدم ذكرها مازالت غائبة أو شكلية وضعيفة في دولنا العربية إلا أن تلوث الهواء – إن جاز التعبير – بالضوضاء يعد أكثر أشكال التلوث إهمالا من الدول ومنظمات البيئة ومؤسسات المجتمع المدني مع أنه تلوث يمكن إدراجه ضمن ضروب التلوث المسببة للأمراض.
وإذا كانت أشكال التلوث الأخرى كافة يمكن تبريرها بانعدام الوعي الصحي والبيئي في العالم الثالث وبسطوة التصنيع والمدنية الحديثة وجرائم الشركات المتعددة الجنسية المنفلتة من الرقابتين الوطنية والدولية فلعل مما يزيد الأمر خطورة فيما يتعلق بالتلوث الضوضائي حينما يجرى فرض بعض مظاهره على الدولة والمجتمع بقوة الحصانة الدينية وباسم الإسلام، فهل يمكن أن يكون ديننا الإسلامي مصدرا ومسببا من مصادر ومسببات التلوث بمختلف أشكاله؟
معاذ الله أن يكون كذلك، فهو الدين الذي قامت عليه أعظم وأنبل الحضارات التي شكلت المرجعية الأساسية للحضارة العالمية المعاصرة، ولكي ندخل في صلب الموضوع فإن ما يفرض من مظاهر ضوضائية من مكبرات الأصوات في المساجد والمآتم والجوامع ويمزق سكون الناس ليل نهار باسم الإسلام هو ليس من الإسلام بشيء، بل يشوه سمعة هذا الدين العظيم والإسلام براء من هذا التصرف اللاحضاري.
ولقد كتبنا غير مرة هنا منذ تسعينيات القرن الماضي حول هذه الظاهرة المؤسفة وناشدنا عقلاء وحكماء القوم في النخبة الدينية والفقهية استخدام أقصى أشكال نفوذهم للإسهام في وضع حل لها ولكن لا حياة لمن تنادي مادمنا نؤذن في مالطة، ومن المؤسف حقا أن البحرين تكاد تنفرد ما بين كل الأقطار الإسلامية بتفشي وتفاقم هذه الظاهرة على نحو فوضوي سائب خطير منفلت من أدنى الضوابط والقيود رغم وجودها بالطبع في كل تلك الأقطار لكن بدرجات متفاوتة وأقل حدة وشيوعا مما هي متفشية ومتفاقمة لدينا.
وأحسب أن الجميع يدرك جيدا الأسباب والحساسيات التي تكمن دون تمكن الدولة من فرض سلطتها وسلطة القانون للحد من الظاهرة وشعور الناس الأبرياء ضحايا هذه الضوضاء بأنهم مغلوبون على أمرهم، لا حول لهم ولا قوة، والدولة بدورها خصوصا تدرك جيدا لماذا هي عاجزة عن فرض سلطتها القانونية، وبالتالي تستطيع إذا ما أرادت تحقيق هذا الفرض من دون ممالأة لأي طرف، ومن دون خوف أو وجل من حساسية طرف آخر أو طائفة.
بهذه المعاني والدلالات كلها فإن دعوة الشيخ محمد علي الستري الناصحة في مجلس الشيخ سليمان المدني الرمضاني بجدحفص إلى احترام القوانين والأنظمة المتبعة في استخدام مكبرات الصوت، وقبلها دعوات ومناشدات مجلس الأوقاف السنية بمراعاة الأنظمة والقوانين في هذا الشأن لا يمكن أن يكون لها صدى فعلي وتجاوب ملموس من جميع الفئات على أرض الواقع بعيدا عن توافق اجتماعي ديني عقلاني يرتفع فوق العصبيات والحساسيات الدينية المريضة ويكون لعقلاء القوم صوتهم المسموع، وصولا إلى أن يكون للدولة كلمتها الفاصلة لفرض هيبتها وسلطتها القانونية التي تجبر الجميع على احترامها دونما تشكيك في ممالأتها لهذا الطرف أو محاباتها لذلك الطرف.
قبل أيام قليلة شاهدت تحقيقا تلفزيونيا مصورا بمدينة غزة تحت عنوان “المسحراتي في غزة تاريخ ممتد من العصر الفاطمي”، وإذ استمتعت بمشاهدة ثلة من الغزاويين الشباب وهم يؤدون على نحو منظم وبديع بالدفوف والطبول تقاليد هذه العادة الرمضانية العريقة الجميلة معتمرين الطرابيش الحمراء العثمانية التاريخية ومرددين الأدعية والأهازيج الشعبية الدينية الفلكلورية التقليدية ومنادين بأسماء الصائمين للاستيقاظ، فقد أعجبت أيما إعجاب بتصريح أحدهم للمراسل التلفزيوني بأنهم يحرصون على تأدية هذه العادة الرمضانية الحميدة سنويا بهدوء وأقل ازعاج ممكن خارج عن الإرادة، يحدث ذلك في مدينة محاصرة قلما نعمت بالهدوء والسكينة، ولطالما تعرضت لدوي كل أشكال القذائف والقنابل الإسرائيلية العنصرية التي تصب حممها على بيوت السكان الآمنين.
على النقيض من ذلك فقد حضرت قبل نحو عامين محاضرة تاريخية للدكتور عيسى أمين بمركز جدحفص الثقافي تعذر عليه في أكثر من مرة الاستمرار في متابعة إلقائها بسبب الارتفاع الحاد جدا لمكبر صوت في مأتم صغير مجاور لخطيب كان يحيي عادة حسينية عادية هي من “النوافل”، وكان صوته يطغى على صوت المحاضر أمين، وكأني عندها بلسان حال الجميع المبتسمين حرجا والمشدودين بشغف كبير إلى المحاضرة التاريخية العلمية الممتعة يقول “حسبنا الله ونعم الوكيل” تأففا وضجرا من هذه الظاهرة السلبية المزمنة التي تصادر أبسط حقوقهم.
فهل نأمل قريبا أن ترتفع الأصوات الدينية العقلانية الحكيمة المتحضرة المنددة بالتلوث الضوضائي باسم الإسلام على أرض جزيرة صغيرة يفترض أنها وادعة تنعم بالأمن والطمأنينة والسكون أسوة بثلة الشباب المسحراتية في غزة الجريح الصامدة المحرومة مما ننعم؟

صحيفة اخبار الخليج
17 سبتمبر 2009