المنشور

المومياء وجدل التاريخ المفقود

في عرضه الجميل لفيلم “المومياء” في قناة فن الفضائية، يحلل الأستاذ إبراهيم عيسى الفيلم عبر إحساس مرهف بوجود إشكالية ما في هذا الفيلم الكبير.
إنه يقرأ إشكالية سطوح هذا الفيلم، وكيف أن فيلماً يمثل الصعيد الجواني يتكلم بلغة عربية شديدة الفصاحة والسلامة اللغوية، كذلك فإنه يعبر عن سنة أولية في القرن التاسع عشر فكيف يتكلم الممثلون الريفيون الأشداء لغة عربية تفتقد أي خطأ نحوي.
وهو يلاحظ هذا التباين بين ما يُفترض أنه يمثلُ الريف وبين المظاهر الاجتماعية واللغة الفنية التي لا تفصح عن ظواهر حياة الريفيين.
تتلخص قصة الفيلم في قيام قبيلة الحربات بإخفاء سر عميق في باطنها الأسري الممتد عبر مئات السنين، والسر هو سرقتها للمومياوات المحنطة في عمق الجبل. ويحكي حدثُ الفيلم كيف يموت أحدُ الكبار في القبيلة، وكيف يظهرُ الجيلُ الجديدُ الذي لا يعرفُ سرَ القبيلة الخطير، ثم يكتشفُ رويداً رويداً سرقة القبيلة لآثار المصريين القدماء، وهو مرتعبٌ، من دون أن نعرفَ لماذا يرتعبُ من ذلك، وخاصة ممثل هذا الجيل الجديد الشاب (ونيس) الذي يحملُ اسماً من بين كل أفراد القبيلة المجردة من الأسماء، والمجردة في مبناها التعبيري الترميزي.
يقوم شادي عبدالسلام كاتب ومخرج الفيلم بتشكيل لغة سينمائية عالية، عبر تحريك المجموعات ذات اللباس الريفي الأسود المتجهم، الجنائزي، الأشبه بالجوقة الإغريقية، بين الجبل وتعاريجه، ورياحه وأصواته، وعبر استخدام الصمت المطول والكلام القليل كما أشار إبراهيم عيسى، وتكوين أداء متميز، وتصعيد درامي متوتر طوال العرض.
اعتمد المؤلف – المخرج على تكوين تضادات اجتماعية فكرية بين حضارة المصريين القدماء، وحضارة العرب، فالأولى مدفونة في الأسفل، في الجبل القيد الرابض على كنوزها، أما الثانية فهي تفتقد الحضارة، وهي جماعة بدو فاقدة الإنتاج، مستولية على الحضارة القديمة.
هي رؤية ترميزية ولا علاقة لقبيلة الحربات بالصعيد بل هي عملية تمثل، هي تناول أكثر الجماعات المصرية المرئية في الواقع الراهن، وتلبيسها لحالة العرب اللاحضارية، وجعلها قناعاً لها.
إنه يرتكز على تناقض مجرد مؤدلج بين حضارة باهرة كليا وبين بدو رعاة. فتلك الغابرة لاتزال تقذف كنوزها وهذه ليس لديها سوى بداوة وجلافة.
إنه يعرض تناقضا قصيا بين حضارة لا دنس فيها، وبين أناس لا ينتجون سوى القيود الحجرية.
يجعل القديمة كلاً متألقا بهيا، وينزع منها أي عتمة وظلم، ويحيل المعاصرة إلى سواد كلي لا نور فيها.
رؤية الأدلجة الخالية من جدلية التاريخ، والتداخل فيه، تعرض على أشرطة الفيلم لوحات آخاذة، فحتى لغة هؤلاء الريفيين تتسم بجمالية عالية، كما أن المخرج اعتمد طريقة الانشاد الاغريقي الملحمي للجوقة، ولهذا المناخ كان لجوؤه إلى اللغة العربية الفصحى، التي أشارت رغماً عنه، لوجود حضارة عربية جميلة، فالفيلم يمثل مسرحا اغريقيا، فهناك الأب القتيل، وهو الحضارة المصرية القديمة، وهنا القاتل الحي، قبيلة الحربات، أو العرب، والنمو الفني هو اكتشاف (ونيس) لأصوله، لانتمائه لأبيه القتيل، وتمرده على أبيه الزائف.
وتمثل عملية بيع المسروقات لأفندية القاهرة، التي تتم بالخفاء، والتي يشاركون فيها سراً، ويقودون أي مفضوح فيها للشرطة، عملية التواطؤ الحديث لمنع إحياء الحضارة المصرية القديمة.
فيلم جنائزي، اسطوري، ينمو بملحمية ودرامية، يعصف بالجلد الإنساني، وعبر إبرة فنية تخيط حكاية بوليسية، هي سر الجثث، وينمو الحدث للحفر في بطونها، ويتم انتزاع الذهب، الذي لم يمكن سوى العين المصرية القديمة الحامية، إحدى أكبر رموز الحضارة القديمة، وهي تظهر من البطن، من عمق الجثة.
لكن تحميل هذه اللغة هذه الكمية الكبيرة من الرموز لم ينشئ علاقة امتاعية بين الفيلم والمشاهدين، فاللغة جافة لكونها لغة أدلجة مُسقطة على واقع حي معقد متعدد، تم اختزاله في تناقض مجرد، فجعلَ العصرين الفرعوني من جهة، والعربي الإسلامي – المسيحي، من جهةٍ أخرى، متضادين كليا، لا يلتقيان في أي نقطة.
هذا ما جعله يُفرغ القبيلة من حيويتِها ويُحجرها، كما جعله يُصلبّ الرمزَ المصري القديمَ ويقتلهُ في الواقع بتحويلهِ إلى رمز جثة.
والفيلم كما هو جميلٌ فنيا من الناحية الشكلية لكنه يمثلُ سكينا يحزُ جلدَ المشاهد العربي على الأقل، فكما أن الممثلَ يمزقُ جلدَ المومياء، فهو يجرحُ المتلقي، ويدميه، بلا هدف تصعيدي خلاق. إنه يعرضُ أهلـَهُ العربَ كأنهم كلهم لصوص.
وقد حافظ العربُ البدو على الآثار والحضارة المصرية، ولم يدمروها، ثم قام أحفادُهم بعرضِها ودرسها، في لغة جدلية، تغني الماضي وتعيد درسه ونقده. أما القوى الجاهلة التي ترفض جدلية التاريخ وعطاءاته المتداخلة فهي خارج التاريخ.

صحيفة اخبار الخليج
17 سبتمبر 2009