­

المنشور

«الدعم» المخملي الانشطار

الذي أحاق باللغة العربية فحولها إلى مجموعة لهجات محكية جرَّ معه مفارقات عديدة، لا يخلو بعضها من الطرافة، حين يصبح للمفردة الواحدة دلالات مغايرة في اللهجات المختلفة، وهذه الدلالات تختلف بدورها عن دلالة المفردة في اللغة الفصحى، هذا إذا كانت المفردة موجودة فيها أصلاً. من الأمثلة المتداولة في هذا السياق كلمة “العافية” التي تعني الصحة والقوة، والتي على أساسها بُنيت الجملة المحكية: “يعطيك العافية”، التي نقولها لأحدهم تعبيراً عن تقدير لجهدٍ أو عمل أتاه، أو لشد أزره وهو منهمك في عمله. وهذه الجملة المتداولة في اللهجات المحكية في بلاد الشام، يمكن لها أن تحمل دلالات مغايرة تماماً لو قلت لأحدهم في بلاد المغرب العربي أو بعضها، حيث أن العافية هناك ليست الصحة والقوة والسلامة وإنما النار الموقدة، فتخيل نفسك تدعو الله أحدهم بأن يعطيه النار بدل القوة! من الأمثلة الطريفة أيضاً على تناقض الدلالات بين الفصحى والعامية الفعل:”دَعَمَ”، الذي يعني في لهجتنا الخليجية المحكية: صدم، كأن تصطدم أحدهم سيارة فتقتله أو تصيبه بجروح، ونقول عن حادث السير:”دعمة”، والشخص الذي يتعرض للإصابة أو الدهس بأنه مدعوم، أما من يرتكب فعل الاصطدام فنقول عنه داعم. لهذه المفردة في اللغة الفصحى، كما نعلم، دلالة أخرى مختلفة جذرياً، فالدعم يعني المناصرة والتأييد والمساندة، كأن نهب لمساندة شعب آخر يتعرض لأهوال الحرب أو كوارث الزلزال أو الفيضان أو خلاف ذلك، فنقول إننا نهب لدعم هذا الشعب، ولذا فهذه المفردة تكتسب إما مغزى سياسياً مباشراً أو مغزى خيرياً وإنسانيا تبعاً للحالة التي نحن بصددها. ولكن لأن اللغة مطواع وتتسم بالمرونة والقابلية للتكيف مع الدلالات التي نضفيها على هذا الاستخدام، فإن مفردة الدعم اكتسبت مع الوقت دلالة إضافية في مجتمعاتنا العربية، فأصبح الشخص الذي يتدرج في الوظيفة سريعاً يوصف بأنه مدعوم، وكذا الشخص الذي لا يجد نفسه مضطراً للوقوف في طابور الأولويات لانجاز معاملته هو الآخر مدعوم، ومثله الشخص الذي تنهال عليه العطايا من قبل مرؤوسيه. الكلمة هنا خرجت من سياقها الأصلي في اللغة لتكتسب محتوى آخر، ومع أنها في سياقها الجديد ظلت كلمة فصحى، لكن معناها اختلف، وحيث يعم الفساد تزدهر فكر”المدعومين”، ولأن مجتمعاتنا، كما تشهد بذلك تقارير المنظمات الدولية المعنية، مصنفة في عداد المجتمعات الأكثر فساداً، فإن فكرة “الدعم” هي، بالنتيجة، مرتفعة أيضاً. “المدعوم” في غالب الحالات هو نقيض الكفؤ والموهوب، لأنه لا يتقدم بمهاراته وقدراته ومواهبه، ولا يتعب على تحسين أدائه وتأهيل نفسه، إنما يتقدم مدعوماً من آخرين أصحاب نفوذ وتأثير، ولأنه مدعوم، فإنه يتصرف بذهنية القوي الواثق من نفسه، غير الخائف من القانون أو اللوائح لأن صعوده يتم خلاف القواعد التي تشترط النزاهة والكفاءة. من صفات “الدعم” في حالة حادث سير الارتطام القوي الذي يسبب موتاً أو جروحاً وندوباً قد لا تطيب أبداً، أما الدعم في الحالة الثانية، فإنه سلس، ناعم، مخملي، جالب للمنافع والفوائد والامتيازات، فلا يعدو الأمر، والحال كذلك، مجرد فرق بين العامية والفصحى. انه يتصل بانشطار الدلالات.
 
صحيفة الايام
17 سبتمبر 2009