المنشور

تداخلات الرأسمالية الشرقية والتيارات

وضحت “التجاربُ الاشتراكية” الخطوطَ الحاسمة العميقة في إنتاجها للرأسمالية الشرقية المقتربة من حدود الحداثة والرأسمالية الغربيتين المتطورتين، وبين الاتجاهات في العالم الثالث الأقل مقاربة لذلك.
الاتجاهات الأولى هي التي تميزت بها التجارب “الاشتراكية”، ولكن لماذا أيديولوجيا مثل “الماركسية – اللينينية” قاربت ذلك من الناحية الجوهرية؟
إن ارتكازها في العقود الأولى على فاعلية الطبقات العاملة الصناعية، هو أمرٌ نتاج ثقافة الغرب الرأسمالية المتطورة، ففي مضمون هذه الطبقات الإنتاجية الفاعلة المضحية، وهي رافعة الحداثة عموماً، انها حاملة هذه العلاقات الرأسمالية الإنتاجية، التي تقوم بنشرها في البُنى المتخلفة الشرقية، ويجري ذلك خلافاً لما جرى في الغرب عبر القسر، بالحماسة هنا والرغبة الشديدة في اختزال النفقات واتساع ساعات العمل وتطوير القوى المنتجة وهذا الجانب تتداخل فيه قوى المثقفين المبدعين ومؤسسات التربية وطاقات الفنانين والأدباء.
تلعب مؤسسات التعليم ونظريات العلوم وقدرة الربط بين الإنتاج والتقنيات، جانباً من التضحية والحماسة، الذي تتداخل فيه عملية الاتحاد بين الشغيلة والمثقفين الطليعيين، حيث هاجس الاشتراكية المشترك والأحلام بإمكانيةِ التغلبِ على تناقضات البشرية وانقساماتها العميقة المؤلمة بين القرية والمدينة، بين الحكام والمحكومين، بين المالكين والعاملين، بين الأغنياء والفقراء، ويقدم هؤلاء الملايين من البشر في تلك العقود التأسيسية طاقاتهم الخلاقة الوفيرة لردمِ تلك التناقضات، وبناء الجسور الكبيرة، وإزالة قيعان التخلف الأكثر عمقاً، فيما كان الجنود يروون بدمائهم أسوجة “سياجات” هذه البلدان والتجارب.
طاقات العملين اليدوي والفكري المبذولة بخصب واتساع، والمتوجهة لتكوين الاشتراكية تقوم بمقاربة الرأسمالية الغربية المتطورة، إن قراءة الرأسمالية ماركسيا، تمظهرتْ بمعرفةِ قوانينها، ولقد امتلكتها فكريا، وتجازوتها حلما، فكان عليها أن تجسدَها، من دون المالكين الشخصيين، لكنها لا تستطيع أن تلغي المالكين، عموماً، فلابد من وجود إدارة ما، ومظهر الإدارة هو عودة لتباين العمل الفكري عن العمل اليدوي، وتعبيرٌ عن عدم قدرة هذا المستوى الشرقي على إزالة مثل هذا التناقض، ويتحول هذا إلى تناقضٍ عميقٍ مع غيابِ مؤسساتِ الديمقراطية، فتظهرُ الرأسمالية في ثوبِ الاشتراكية.
هذا التناقض يتسع ويصير الإداريون المالكون مالكين حقيقيين جزئيا لا كليا، فالكلية صعبة أو مستحيلة، مثلما أن القادة الذين يقتربون من الآلهة أو الأنبياء يفقدون سحرهم الغيبي هذا ويعودون إلى مقاس القادة السياسيين الطبيعيين، وتقوى إمكانياتُ الدينِ التقليدي ويستعيدُ مكانـَه، ورموزه المغيبة، بعد أن عجزَ دينُ الاشتراكية عن أن يصيرَ واقعا موضوعيا.
لا يستطيع الشرق أن يتخلى عن الدين في مرحلته التحديثية المعاصرة، ليس لعجزه الثقافي أو عدم وجود التنوير فيه، بل لأن الدينَ جزءٌ من هيكلهِ الاجتماعي.
وما قامت به اشتراكية الحلم تلك، رأسمالية الدولة واقعاً، هو إبعاد العناصر الاجتماعية المحافظة في الدين كمنظومةٍ سيطرَ عليها الإقطاع، ولم يقدرْ تاريخُ الشرق “النهضوي” المحدود أن يتغلبَ عليها.
لقد عرقل الإقطاعُ الشرقي قوى الإنتاج عبر مئات السنين، وديّن العلاقات المتخلفة وعدم المساواة بين الرجال والنساء، وحول السلطات إلى كائنات فوق طبيعية، وربط المدن بتلك المؤسسات المتعالية وبتخلف الأرياف والبوادي، وجعل هذه قواعد لأشد حالات التخلف والأعاصير الاجتماعية.
ما نجحت فيه البلدان التي تبنت التجربة “الاشتراكية” لم تنجح فيه البلدان النامية التي لم تأخذ بلح الاشتراكية ولا عنب الرأسمالية، وقادها الضباط والمثقفون الريفيون عامة، في أنصاف حلول وتجريبية غامضة، وهوس ديني، فغدت تجاربهم تصنيعاً محدوداً وتضخماً للهيئات البيروقراطية والدينية، ثم دخلت في انقلابات وحروب استنزفت الكثير. لقد عجزت عن القفزة التي قامت بها بلدان الاشتراكية، تلك القفزة النادرة المتناقضة الغريبة في التاريخ.
فتصنيع الريف لم يتم، ومقاربة أوضاع النساء للرجال لم تتحقق، ومعدلات التنمية كانت محدودة، وثروات خيالية ضاعت على البذخ وعدم التخطيط.
توجهت تيارات الشرق هذه ليس لمقاربة الرأسمالية الغربية المتطورة، بل لرفضها استناداً إلى ثقافتها السحرية، وليست الدينية العقلانية، لم تعتمد العلوم بل المذاهب كما هيمن عليها الإقطاعُ في العصور السابقة، وجُعلت بوصلتها للخلف، فراحتْ تسترجعُ طوائفـَه وحروبَه وتمزقاته، لم تجعلْ الغربَ المتطورَ وجهتها سواءً لمقاربته أم لتجاوزه في نسخة اشتراكية حلمية.

صحيفة اخبار الخليج
16 سبتمبر 2009