المنشور

التقدميون والأديان

كل الشعوب لها مبادئ مرتبطة بجذور تعود لمائة ألف سنة من التاريخ المنظور، وأبعد بكثير من ذلك.
هي تمثل أوضاع الإنسان الضعيف الحائر والمتنامي القوة كذلك في مجابهة قوى الطبيعة والحرمان والموت وهي تشكيلات من الأفكار والمبادئ موزعة في كل القارات وأقطار الإنسان، وقد صعدت في حمى السياسة العالمية الراهنة وعولمة الأمم وتداخلها، أكثر بكثير مما جرى في العصور السابقة.
هي مبادئ لو قورنت فإنها متباينة شديدة التباين مختلفة كثيرة الاختلاف، وهي مع هذا مقدسة لدى كل من يؤمن بها، وتقوم الحروب على شعرة تـُفسر على أنحاء مختلفة منها.
وجماعات التحديثيين المنتشرة بين كل أقطار الأرض والأمم لا تؤمن بهذا التنوع الغيبي، بطقوسه الحرفية، ولكن بدلالاته التاريخية، ومراميه الإنسانية الخالدة، وتؤمن بأن هذه هي جذور البشر في تاريخهم المديد الصعب والطويل.
وهذا الوعي النضالي التحديثي يكن الاحترام كذلك لهذين التنوع والفرادة في كل تراث، ويعمل لعدم تحولهما إلى أدوات للحروب والاستغلال والشر، بل للخير والتعاون ولاحترام تقاليد كل شعب.
ورغم عدم الإيمان الغيبي الحرفي فإن الاحترام والدفاع عن هذه المقدسات وتقاليد المؤمنين، هما ضرورة، لأنها ميراث يعبر عن ضرورات تاريخية وكيانات شعوب وجذور أمم وتجارب نضالية كبرى، وهذه الأمم التي مرت بكل هذه المسارات الدينية المختلفة لابد أن تصل إلى التعاون الخلاق بينها، وتشكل اقتصادات مفيدة للجميع، بدلاً من مواصلة مواريث الماضي من التخاصم والنزاعات.
كل دين ومذهب وفلكور شعبي وتقاليد تبدو مرفوضة ومدعاة للاحتقار في نظر شعوب أخرى، لكنها لجماعاتِها تظلُ مقدسة.
فلا يوجد هناك نظر ديني أو عصري واعتقادٌ هو فوق الجميع ويجب أن يفرض عليهم، وعلى الناس الخضوع له، ولا توجد فكرة يجب أن تسود على الجميع، فكل الأفكار والأديان موقرة وذات أهمية ومكانة سامية، لكن بين أهلها وجماعاتها، كما أن الشعوب الأخرى تتأثر بما هو طيب وخلاق فيها.
لقد تقدمت القوى المحافظة على مدى التاريخ لكي تجعل الأديان أقنعة فوق وجوهها لكي تستغل الناس، وتجلب ثمارَ العمل لحياتها، وسواء كان ذلك طبقاً لرجل دين بوذي فقير مسالم أم خزائن لرجل دين سماوي كدس الملايين، ومن هنا استماتتها لكي لا يجرى فصل الدين عن الحكم والذهب والخيرات.
الروحانيون حين توحدوا مع السلطات فقدوا روحانيتهم، وكلما ازدادت هذه المادية لديهم فقدتْ “شعوبهم” تطورها وسموها ودخلت في معارك المادة، تتعارك على من يسيطر على المصانع والمتاجر والأراضي، ومن هو الأقرب إلى قرارات الأرباح، ومن يقمع العمال إذا طالبوا بحقوقهم، ومن هو له الأنصبة الكبيرة من الرواتب الحكومية والمعاشات التقاعدية.
ان الخطر يحدق بالأديان، وفيما كانت هي مصدر سمو وتقدم تغدو مصدر تقسيم وصراعات دنيوية مبتذلة، ويوجه البعض انتقاداته للأديان باعتبارها كوارث على الإنسانية، من خلال أفكار غير تاريخية وغير موضوعية، ويقدم الكثير من الدينيين مادة وفيرة لذلك، ولقد انتموا إلى الأديان ولكن كم من منهم واصل نضال الأنبياء وتضحياتهم؟
إن نضالات الأنبياء تستمر بضعة عقود ولا تستطيع المراحل التاريخية والنخب السياسية والجماهير البسيطة أن تواصل تلك التضحيات، وتلك المآثر، إنهم طلائع وإشارات للبشر في تطورهم المعقد، ولكل مرحلة وتاريخ إمكانية الاستفادة والتأثر والتوظيف حسب الطاقات والإمكانيات والقراءات المختلفة.
تأتي دولٌ وقوى وتنسخ تلك الوصايا والنضالات، وفيما هم يعيشون في بحبوحة من العيش على حساب الغير يتكلمون عن القداسة والنبوات وعدم التفريط بشعرة من الدين.
لماذا؟ لأن الدينَ صارَ من الغموض وتعدد الوجوه في مناخهم السياسي بحيث لا يعري ما يملكونه من مليارات لم تأتِ من عرقهم.
ولهذا فإن المناضلين المعاصرين لا يريدون توظيف الأديان في العمل السياسي، ولا المتاجرة في نصوصها، ولا يريدون تركيب قصصها وتضحياتها ومُثـُلها فوق مادتهم المتواضعة الراهنة ذات الظروف المختلفة، ولا أن يستخدموا جملها المقطوعة من سياقاتها في تكتيكاتهم السياسية، وأن يفبركوا دعاية انتخابية من نصوص الكتب المقدسة.
وحين يفشلون ويخدعون ويزورون، يستندون إلى نصوص أخرى، فيبررون فشلهم في التخلي عن أهداف الجماهير التي رفعوها بقوة بحجج أخرى.
إن التحديثيين والتقدميين ليسوا متنصلين من ذلك التاريخ الديني ولكنهم ليسوا مخادعين به، ومتاجرين في قيمه، وكل منهم يُحاكم من خلال برنامجه السياسي، ومدى قدرته على تطبيقه ومدى فشله فيه، إنهم يعملون لاسترداد الغنائم الضائعة والموارد العامة المُستغلة المتوارية داخل العالم الضبابي في سيطرات الدول والجيوش، أما البيت فله رب يحميه.

صحيفة اخبار الخليج
15 سبتمبر 2009