المنشور

التجربة والخطأ في سياسة منح الجنسية

تسبح الأسماك إلى حيث أعمق، وتهاجر أسراب الطيور بغريزتها إلى حيث تقتضيه دورات حياتها. أما البشر فيتنقلون بين بلاد العالم إما سعيا وراء العيش المادي الأفضل كما في الخليج وإما العيش المادي والحقوق الأفضل معا كما في الغرب. ولا يمكن لأحد أن يلوم الناس في سعيها:
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب
كما أنه ليس من مسؤولية المهاجرين تنظيم حركة انتقال البشر حول العالم، بل إن مسؤولية كل بلد أو مجموعة بلدان تنظيم حركة وحجم الوافدين إليها بما يخدم تطورها ويحمي أمن مواطنيها بالمفهوم الواسع للأمن. فمن الأصل لا يأتي الوافد إلى بلد ما بسابق هدف أن يطور العمليات الإصلاحية التنموية، ناهيك عن السياسية في البلد القادم إليها. المواطنون الأصليون هم المعنيون بذلك في الأصل. وحتى المواطنون تتفاوت مواقفهم من هذه العمليات التي لا يمكن أن يفهموها إلا من زاوية حماية أمنهم بالمعنى الواسع للأمن. الفيلسوف والحقوقي الفرنسي شارل مونتيسكيو (1689-1755) أكد قبل قرون أن ‘الحرية السياسية بالنسبة للمواطن تعني الاطمئنان الروحي المؤسس على ثقته بالشعور بأمنه’. ومتى ما تحقق هذا الأمن فعندها يرى الكاتب الأميركي مارك توين، أو صموئيل كليمنص (1835-1910) أن ‘المواطن الذي يرى ملابس بلاده السياسية قد اهترأت، بينما هو صامت ولا يدعو لإلباسها ثوبا جديدا، لا يعتبر مواطنا وفيا لبلده إنه خائن’.
إذن فالمسافة كبيرة جدا ما بين ‘توطين’ المواطنين الأصليين في بلد ما و’توطين’ الوافدين إليها، إذ إن الأخيرة أعقد بما لا يقاس. وهي تتعقد أكثر عندما تعتمد سياسة منح الجنسية على مبدأ التجربة والخطأ. وحسنا فعل وزير الداخلية الشيخ راشد بن عبدالله آل خليفة أثناء زيارته الإدارة العامة للجنسية والجوازات والإقامة الأسبوع الماضي عندما قال إنه ‘في ظل المستجدات الأمنية والسياسية والاقتصادية فإننا نقوم بمراجعة سياسة منح الجنسية’، مؤكدا أن هناك اشتراطات المادة 6 من قانون الجنسية بإقامة 15 سنة للعربي و 25 سنة للأجنبي، ومشددا على المراجعة الدقيقة في جميع المراحل والجوانب القانونية والأمنية والإدارية.
واضح أن سياسة منح الجنسية التي اتبعت منذ بداية الألفية اعتمدت مبدأ التجربة والخطأ فأدت إلى تشكل مركب من العوامل الضاغطة بقوة في الاتجاه المعاكس لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وانعكست سلبا على الهوية الوطنية، وأن أبسط مواطن قادر على سوق عشرات الأمثلة. يصلح الأخذ بمبدأ التجربة والخطأ لحل المسائل المعقدة في علم الرياضيات والبحوث العلمية والتقنية، حيث هنا أيضا تجري الاستفادة من التجارب السابقة، كما يصلح لتعليم طفل قبل أن يكتسب مهارات حياتية بسيطة. لكنه لا يصلح في الإدارة الوطنية. لقد وقف أمام هذه الظاهرة السلبية في بلاده رجل دولة كالرئيس الإيراني السابق هاشمي رفسنجاني بداية هذا العام حين أشار إلى أن وقتَ التجربة والخطأ قد انتهى وأن ‘التصرفَ خارج الخطط المحددة سيؤدي إلى إعاقةِ الطريق نحو التنمية والعودةِ إلى نقطةِ البداية وسوف يفرضُ تكاليف باهظة على الاقتصاد الوطني’.
الآن يصعب أن يجادل أحد، بمن فيهم المسؤولون عن أهمية التوقف الفوري عن السياسة الحالية لمنح الجنسية ثم مراجعتها. بل إن المطلوب أكثر من ذلك، تصحيح أخطاء وأخطار التجنيس العشوائي وغير القانوني للسنوات الماضية. لكن الأهم هو الإسراع في صدور قانون جديد للجنسية يحل محل الصادر في 16 سبتمبر ,1963 وخصوصا مادته السادسة التي تحول استثناؤها إلى شبه قاعدة ينقض أصل المادة، بتجنيس من لم يستكمل شروط الإقامة ومن لا يعرف العربية بشكل كاف ولا يتملك عقارا ثابتا باسمه. مطلوب أن يستند قانون الجنسية إلى استراتيجية وأهداف واضحة في سياسة التجنيس. فبهذا المعنى أعادت الشقيقة السعودية النظر في سياسة منح الجنسية منذ العام ,2005 وكذلك فعلت دولة الإمارات الشقيقة. ومن تجارب بلدان العالم المتقدمة نجد أن بريطانيا التي فتحت باب الهجرة إليها لخدمة حاجاتها الوطنية، فإنها لهذه الأسباب عمدت إلى التشدد في منح الجنسية تحت حجة حماية الاقتصاد والعمالة الداخلية، ومقاومة البطالة بين الشباب البريطانيين في السنوات الأخيرة، ومن لجوء بعض العناصر الإرهابية إلى بريطانيا. أما ألمانيا فيرى زعيم حزبها الاشتراكي الديمقراطي شرودر في الهجرة سدا لثغرة تناقص عدد السكان الناجم عن تراجع معدلات الولادة في ألمانيا وشيخوخة المجتمع الألماني، والآثار السلبية لكل ذلك على تركيبة النظام الاجتماعي وسوق العمل. ومع ذلك فإن ألمانيا لا تمنح الجنسية إلا بشروط أهمها الحاجة للمجنس ثم تهيئته من كل الجوانب للاندماج في المجتمع ويصبح مواطنا فعالا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية ويساهم حقا في تجديد ثوب البلاد السياسي، كما دعا إلى ذلك مارك توين.
 
صحيفة الوقت
14 سبتمبر 2009