المنشور

الأقدار في المسلسلات الرمضانية

يتدهور الوعي العربي في المرحلة الراهنة لغياب قوى وطنية معتمدة على قطاعات عامة مؤثرة، وتجيء عملية تدهور القطاعات العامة مع تصاعد القطاعات الخاصة المشغولة بمصالحها الذاتية، فتضيع عمليات فهم الواقع خاصة على المستوى الجماهيري.
ومن هنا تتشابك تأثيراتُ القوى الدينية الفاقدة القراءات الموضوعية للواقع مع تنامي الجماعات السحرية والانتهازية الاقتصادية، فتتغلب في المسلسلات الرمضانية مفرداتُ السحر والشعوذة والقدرية، ويصير بطلُ مسلسل “تاجر السعادة” الأعمى المرح الساخر المناضل من أجل الجمهور وتجميع قواه ضد المستغلين إلى أن يكون مشعوذاً دجالاً، والتحول يتم رغم بطئه فإنه بلا مقدمات عميقة، فالمسألة لا تعتمد على عمق بقدر ما تعتمد على حشو الحلقات، فالرجل الكفيف يتمتع بقدرات خارقة، وينتقل ببساطة من فن إلى آخر، ثم يجد المسلسل أنه لا فائدة من هذا العرض البسيط الذي وصل إلى طريق مسدود، فيحيله إلى ساحر متمكن يقرأ الكف والفنجان ويستطيع خداع الجمهور عامة.
وهناك جانب مسل وثقافي ممتع في المسلسل حيث تغرف زوجة الكفيف الأولى الكثير من الأناشيد والأمثال والقصص الشعبية بأسلوب فكاهي، لكن المسلسل لا بناءَ جديا عميقا فيه.
وهو يقدم معلومات مشوهة عن “علم الكف”، وكيف أن القدر الإنساني مرسوم من الخارج سواءً في خطوط اليد أم في الأبراج، ويدعم ذلك بفكاهات تحاول إدخال مثل هذه الخرافات في العقول.
نجد في المسلسلات صور الشوارع العربية التي تتفاقم فيها المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، فالجماهير الفقيرة المنهكة في كل مكان، رغم قيام الحبكات الدرامية بعزل صور الشخصيات والأحداث عن عمق هذه المشكلات والقضايا، فالمسلسل كغيره لا يعتمد على شخوص تقاوم أو تفعل شيئاً مؤثراً.
تعتمد المسلسلات على حكايات ضحلة، هي نفسها حكايات الغرام، وصراعات العائلة، فهناك دائماً قصة حب تحولُ بينها عواملٌ داخل الأسرة كالأب المسيطر الريفي في مسلسل “أفراح ابليس”، والصراع في المسلسل لا يعدو أن يكون صراعاً بين عائلتين كبيرتين في الريف على ملكية أرض ويتجسد الصراع في علاقات الزواج غير الموفقة التي تدوم حلقاتها ويومياتها الباردة طويلاً، ولكن ليس ثمة أي تغلغل في قضايا الريف الذي هو موقع المسلسل بل لا يكاد الريف أن يظهر.
والعودة للعلاقات العائلية والزوجية والبقاء عند هذا المستوى هي عودة لأفلام الأربعينيات والخمسينيات، ولكن تلك كانت عبر تمثيل قوي وقصص درامية، أما هنا في هذه المسلسلات فمجرد إحداث تمطيط من أجل الوصول إلى عدد ليالي الشهر، فنجد أن أسباب الخلافات ذاتية، كوجود شخصية شريرة في العائلة الأخرى يغذي دوماً أسباب الصراع، من دون أن يتحول أو حتى يغير ملابسه الفضفاضة.
وقد اعتمدت المسلسلات السورية الاجتماعية على مثل هذه العروض الشخصية والجزئية الخالية من أي صراع اجتماعي.
وهذا ما يجري في مسلسلات مصرية أخرى مثل “ما ليش غيرك”، وفي هذا المسلسل (تتفجر) الأحداث في البداية بسبب قتل شاب يعمل في المزرعة لمالكها بشكل مصادفة فجة، فالشاب يعرضُ عليه في الحقل انه يريد الزواج من ابنته فرفضه بشدة وضربه فما كان من الشاب سوى أن قتله، ولكن هذه الفجاجة في البناء الدرامي اُعتمدت أساساً لتطور الأحداث التالية التي لم يكن فيها سوى حس الانتقام والتلاعب به، ثم علاقات الزواج المتداخلة.
ليس ثمة وقائع موضوعية، وتصرفات قائمة على نضال وتحد من القوى الشعبية، أو بناءات على شخصيات نموذجية تعطي أمثولات كبرى، بل تسود الاعتباطية والمصادفات والنماذج الانتهازية التي تـُبنى من دون أي أساس.
يتغير المكافح ويصير مشعوذاً في غمضة عين تاريخية، والعامل يصيرُ قاتلاً، والمحامي المدني في “ابن الأرندلي” يتلاعب بالبيضة والحجر، بل بمجموعة من النساء والثروات التي تبلغ الملايين، وفي أزقة اجتماعية مجدبة، لا تنتج قيمة بعد كل هذه البهلوانيات المرحة والمقالب والمساخر. صحيح ان الأداء هنا قوي وحيوي، لكنه يقوم فوق حالات اجتماعية اعتباطية.
ويصبح المحامي قناص الثروات مزواجاً ونحن نتابع زيجاته وتهريجه بانتظار دلالات ما عميقة من دون فائدة.
وفيما يكون إنتاج القطاع الخاص بهذا الاحتفاء بالسحر والدجل والمصادفات والأقدار تعبيراً عن غياب أي مشروع نهضوي، بل هو البحث عن الربح الموحل، يعرضُ القطاعُ العامُ المصري بالتعاون مع القطاع الخاص، مسلسلاً قيماً هو “صراع الجواسيس”، يؤكد فيه قيم التخطيط والعلم والنضال.
فهنا يغدو الصراع ضد جهاز الموساد الإسرائيلي ليس قدريا بل هو جزء من انتشال شاب مصري مهاجر من الشبكة التي وقع فيها، والتي تضافرت وقتذاك مع احتلال سيناء والهجمات الوحشية على العمق المصري مثل قتل العمال وضرب مدن القناة، وتتحول كل حلقة إلى سفر وتصوير في بلدان أوروبا التي جرت فيها عملية الصراع هذه، وبناء شخصيات دقيقة وأحداث متنامية متوترة، ويقوم المعمار الفني على شخصية فتاة “سامية فهمي” هي ابنة لعائلة وطنية ذات جذور ثقافية صلبة، تنخدع بشخصية الحبيب المتهافت الذي يصير جاسوساً، فتصارع أشلاءها وحبها وحياتها من أجل أن تـُفشل هذا الاختراق.
لقطاتٌ دقيقة جمالية، وشخصياتٌ مرسومة بعمق، وأداء متطور، وضمن عقلية موضوعية وطنية تسيطر على واقعها.

صحيفة اخبار الخليج
14 سبتمبر 2009