قبل بضعة أسابيع (17 يوليو 2009) تناولنا باستفاضة، في مقال بعنوان ‘شبح الموت الذي يطارد العراقيين’، الحرب القذرة وغير المعلنة التي تشنها مجموعات إرهابية ضد فقراء وبؤساء العراق من المدنيين العزل الذين لا علاقة لهم لا بالسياسة ولا بالحرب الأيديولوجية الإقليمية، وتجسيداتها الباردة والساخنة في أكثر من ساحة عربية وإسلامية. وقد أردنا حينها من ذلك التنبيه ولفت الأنظار الهائمة وغير المكترثة إلى المخاطر الكارثية التي تشكلها هذه العمليات الإرهابية الغادرة على مجمل الأمن القومي العربي وكل المكتسبات التنموية، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي راكمتها المجتمعات العربية على مدى سنوات تعميرها في العصر الحديث. اليوم نعيد طرق الموضوع بعد أن تحولت العمليات الإرهابية إلى طقس تدميري مجنون يُغرَّر به مئات الشباب العربي والمسلم في كافة البلدان الإسلامية وبلدان المهجر التي فتحت أبوابها للعرب والمسلمين للعمل وبدء حياة جديدة لهم فيها، وبعد أن تحول هذا الطقس إلى فيروس يوشك أن يصير وباءً يأتي على الأخضر واليابس في بلاد العرب والمسلمين. الخطورة في هذا الأمر هو نجاح الجماعات الإسلامية الإرهابية التي تُنعت تلطيفاً ومداورةً بالتشدد والتطرف، في تحويل هذا الطقس العدمي إلى ثقافة مؤسسة أيديولوجياً دينياً ومحقونة بمرغبات ومحفزات أخروية على أيدي شيوخ التنظير والإفتاء الإرهابي الذين يجهدون ليل نهار في إضفاء المسوح الدينية على تخريجاتهم التكفيرية وخلع نعوت الجهاد والاستشهاد على الأعمال البربرية التي ينفذها تلامذتهم انصياعاً لتكليفاتهم ‘الشرعية’! وهذا ما يفسر ذلك المخزون الغزير من الانتحاريين الذين يقذف بهم مشايخ التكفير والتدمير الشامل في ساحات ‘الوغى’.. في العراق وباكستان وأفغانستان ومصر والسعودية والمغرب والجزائر وموريتانيا واليمن والكويت والأردن وتونس والهند وكشمير وأندونيسيا وتايلند وبريطانيا وأسبانيا ونيجيريا وغيرها من البلدان التي تستهدفها المجموعات الإرهابية لأي سبب، ولأتفهه حتى، كما حصل مع فرنسا التي تلقت تهديدات من أعلى قيادات التنظيمات الإرهابية بشن هجمات إرهابية داخل أراضيها لمجرد أنها حظرت النقاب في إطار منعها للرموز الدينية كما هو حال القلنسوة اليهودية والصليب المسيحي وبما يتفق مع ممارستها لسيادتها على أراضيها وليس أراضي الآخرين. وبموجب فتاوى تكفير وإجازة قتل الآخر المُختلف فقد تم إزهاق أرواح عشرات الآلاف من الأرواح في العديد من بقاع العالم على أيدي آلاف الانتحاريين الذين تم اللعب بعقولهم وتحويلهم إلى قنابل بشرية يستخدمها أولئك المشايخ، سواء منهم القابعون ‘تحت الأرض’ وخلف جدران التخفي في المناطق الجبلية والقبلية هنا وهناك، أو المقيمون بين ظهرانينا يعيشون ويهنأون بحياتهم اليومية الرغيدة، بل ويتبوأ كثير منهم مناصب رسمية دينية ومدنية داخل مؤسسات الدول المفترض أنها تناهض الإرهاب بكافة أشكاله، على الأقل وفقاً لخطابها المعلن. الغريب والمثير أن هذه العمليات الإجرامية المدمرة، وهذا التحشيد والتحريض عليها وتعبئة طوابير الانتحاريين للزج بهم في صومعة التقتيل والتدمير، لا تلقى الرد المناسب والموازي لعِظم خطوبها من جانب السلطات وأجهزة الميديا العامة والخاصة وقوى المجتمع النافذة دينياً ومدنياً، ولكأن الجميع غير مكترث البتة للسموم الخطرة التي تنثرها هذه المجاميع الإرهابية. بل إن أجهزة الميديا، العامة والخاصة، لا تتردد في التماهي عاطفياً مع أعمال هذه المجاميع، إن من خلال الدعاية بمفردات منتقاة لعملياتها الإرهابية، والتي بالمناسبة يندر أن يُخلع عليها هذا التوصيف، فهي تصنف كعمليات انتحارية وحسب، أو من خلال بث وإذاعة أنباء ومقابلات وشرائط ونقل تصريحات زعماء المنظمات الإرهابية واستدعاء واستدرار تعاطف الرأي العام معهم. كما يقدم بعض أجهزة الميديا العربية العمليات الانتحارية في قالب تبريري فاقع يقارب المفهوم المتداول للجهاد هذه الأيام على منابر الدعوة والتعبئية وفي الميديا بأنواعها. أكثر من هذا، أي أكثر من إسدال ستار الصمت عليها وأكثر من إشهارها وتسويغها إعلامياً، هنالك خطباء مساجد يحرضون عليها شاهراً ظاهراً باسم ‘مجاهدة الكفار والمشركين والنصارى’ ويتلقون رواتبهم الشهرية من حكوماتهم الصامتة ‘المحايدة’ إرهابياً. وذلك بخلاف المطبوعات من الكتيبات والنشرات والكاسيتات والأقراص المدمجة التي توزع بالمجان، وهي الحافلة بكل أنواع الحض على الكراهية والتحريض ضد الآخر المختلف. وما يزيد الطين بلة أن هذا التوجيه والترتيب الأيديولوجي ‘البروبغاندي’ الممنهج يتسع ليطال المناهج التعليمية التي يجري تلقينها للنشء مذ نعومة أظفارهم.. وهكذا فالمسألة أو لنقل ‘الثقافة الانتحارية’ - إن جاز التعبير - هي أكبر وأعقد مما قد تبدو عليه، برسم سعة حجم ‘المتورطين’ والمنغمسين في بذر بذورها وتخليقها ومن ثم إشاعتها على النطاق الواسع الذي هي عليه اليوم. ما الذي يعنيه هذا؟ إنه يعني ببساطة أن الإقليم العربي والإقليم الإسلامي الأرحب يضعان نفسيهما في موضع لا يحسدان عليه ويعرضهما لسهام النقد اللاذع من قبل مجتمعات بقية الأقاليم العالمية الأخرى، إذ يعرضان نفسيهما كأصحاب خطاب مزدوج واحد للخارج يجري بموجبه تطمين الأسرة الدولية بأن العالمين العربي والإسلامي يقفان إلى جانب الأسرة الدولية في مكافحتها للإرهاب واستعدادهما الدائم للمساهمة في الجهود الدولية الرامية للتخلص من خطره المهدد للأمن والسلم الدوليين، وآخر للداخل يتماهى، مواربةً في الغالب، مع الاتجاهات الفكرية والتطبيقية للجماعات الأصولية التكفيرية في السر والعلن، بما يجعل من ‘المذهب الانتحاري’ منظومة فكرية وتربوية وإعلامية ومالية ولوجستية متشابكة لحد التكامل يصعب فصل مكوناتها عن بعضها البعض كما يحدث أحياناً لأغراض شتى من بينها ‘الزوغان’ عن استحقاق مواجهة المنظومة كظاهرة. ولعل هذا ما يفسر عدم حدوث تحرك فردي (على مستوى الدول فرادى) أو جمعي (على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي أو الجامعة العربية مثلاً) لتحريم وتجريم العمليات الانتحارية باعتبارها أعمالاً إرهابية، وكذلك - ترتيباً - عدم تقديم المحرضين عليها من مشايخ التنظير للإرهاب والدعوة، الصريحة والمغلفة، لإقصاء وتكفير الآخر المختلف، للعدالة بتهمة إثارة الفتن وتعريض الأمن القومي والأمن الاجتماعي للأخطار. وعلى ذلك فإن أحداً لا يتوقع أن يتوقف مسلسل المجازر والقتل الجماعي وأعمال التدمير الإرهابية المروعة التي ينفذها الإرهابيون (أو الانتحاريون كما يحلو للإعلام المراوغ تسميتهم) بتوجيهات من مشايخ التكفير والتحريض ما لم تبادر الحكومات ومنظمة المؤتمر الإسلامي والجامعة العربية لتحريم العمليات الانتحارية قانوناً وميثاقاً.
صحيفة الوطن
12 سبتمبر 2009