المنشور

روسيا والحرب العالمية الثانية (3-3)

* بين النازية والستالينية
مما يلفت الانتباه ولا يخلو من مغزى في المعركة الاعلامية والسياسية التي تخوضها روسيا حاليا دفاعا عن موقفها خلال الحرب العالمية الثانية ابان النظام السوفييتي السابق ودفاعا عن تاريخها وهويتها وشرفها وكرامتها الوطنية، انها، المعركة، لا تقتصر على الحكومة او الاعلام الرسمي، بل يشارك فيها لفيف كبير من الرموز والقوى السياسية في المعارضة، كما يخوض مؤرخون مستقلون كبار ويتصدون بأدواتهم المنهجية التاريخية العلمية الموضوعية لتفنيد الحملة السياسية والايديولوجية الاوروبية المغرضة لادانة ليس كل المواقف والسياسات السوفييتية خلال الحرب جملة وتفصيلا فحسب، بل عدم التورع عن مساواة الستالينية بالنازية.
ولئن كنا قد أشرنا يوم أمس إلى المرافعة التاريخية المتميزة التي ادلى بها المؤرخ الروسي الكبير الكسي بودبير يوزكين في الحوار الذي اجرته معه صحفية “ارغومنتي نيديلي” الروسية والتي فند فيها اتهام بلاده بمسؤوليتها عن الحرب ودحض مساواة الستالينية بالهتلرية فثمة ساسة ومؤرخون روس آخرون اخذوا على عاتقهم التصدي للحملة الاوروبية المسعورة على بلادهم ونزع الغطاء عن أي مشروعية او مصداقية يتمتع بها القرار الذي اتخذته الجمعية البرلمانية لمنظمة الأمن والتعاون الاوروبي عشية الذكرى الـ70 لاندلاع الحرب، ومن هؤلاء المؤرخين الدكتور ديمتري يرمولاييف، استاذ التاريخ بجامعة الصداقة بين الشعوب بموسكو الذي وصف القرار بأنه ليس له أي أهمية قانونية على الأرض ولن تترتب عليه مسؤوليات ازاء روسيا، لكن اثره في التشويش الاعلامي والايديولوجي الذي يراد منه تشويه موقف روسيا امام الرأي العام الاوروبي والعالمي وزعزعة ايمان شعبها بماضيه الوطني.
وعلى الرغم مما يبدو من القرار كأنه مجرد إدانة تاريخية لستالين فإنه ينطوي على غمز غير خاف عن العين لإدانة روسيا الحالية، حسب ديمتري يرمولاييف، باسم ادانة الشمولية والاستبداد واعتبار ما يجري في روسيا اليوم انما هو امتداد للحقبة السوفييتية، وبموجب هذا القرار وغيره من المواقف فان الاوروبيين ينصبون أنفسهم أوصياء واساتذة على الروس ليحددوا لهم كيف يعيشون وكيف يفكرون. وبهذا المنطق فانهم إذا ما طلبوا إلى شعبنا التنكر لكل تاريخه وماضيه الوطنيين المجيدين باسم ادانة الشمولية الستالينية فان هذا يعني أيضا ادانة أي احتفال شعبي لتكريم او تخليد رائد الفضاء الروسي العالمي يوري جاجارين او تخصيص يوم للاحتفال بعيد الفضاء الروسي باعتبارها – كما ذكر القرار – من مظاهر الاحتفال والتمجيد بالشمولية الستالينية او الارث الستاليني. صحيح نحن ندين الانتهاكات والجرائم التي وقعت في العهد الستاليني لكن الستالينية لم تكن تعني لشعبنا الشمولية والاستبداد فقط، بل تعني أيضا، ضمن ما تعني، المحطات الكهرومائية والتحولات الصناعية الكبرى وما تم احرازه من منجزات علمية، ثم ماذا عن المظاهرات التي مجدت النازية في دول البلطيق؟ لماذا تغافل عنها القرار الاوروبي؟ كما ان محاكمات نورمبيرغ ادانت مجرمي الحرب النازيين لا المقاتلين السوفييت الذين ضحوا بأرواحهم لتحرير 12 بلدا من دنس الاحتلال النازي.
وعلى الصعيد الرسمي وفي سياق خوض معركة الدفاع عن تاريخ روسيا الحديث وعن موقفها خلال الحرب العالمية الثانية فقد دعا الرئيس بوتين الدول الاخرى الى ضرورة الاعتراف بأخطاء الماضي موضحا ان بلاده أقدمت على ذلك بشجاعة، وأضاف في مراسم احياء الذكرى الـ 70 لاندلاع الحرب العالمية الثانية في بولندا “ان البرلمان الروسي أدان معاهدة مولوتوف – رينتروب بين الاتحاد السوفييتي والمانيا النازية، ويحق لنا ان نتوقع القيام بمثل هذه الخطوات من قبل الدول التي ذهبت لعقد الصفقات مع النازيين”.
أما الرئيس البولندي ليخ كاتشينسكي فقد اعترف علنيا في الاحتفال المذكور بخطأ مشاركة بلاده مع ألمانيا في اقتسام احتلال تشيكوسلوفاكيا عام 1938 وبمسؤولية بلاده أيضا عن تشجيع ألمانيا النازية على اشعال الحرب.
ولم تقتصر مرافعات وردود روسيا في دفاعها عن موقفها من الحرب العالمية الثانية ضد قرار البرلمان الاوروبي على ذلك بل ذكّرت موسكو بما قاله حلفاء ستالين فيه وفي حكومته خلال الحرب من ايجابيات، ومن ذلك ما قاله حرفيا رئيس الوزراء البريطاني تشرشل “لا أعرف حكومة نفذت التزاماتها خلال الحرب بدقة اكثر من الحكومة السوفييتية”. كما أعادت موسكو أيضا إلى الأذهان ما قاله روزفلت لستالين مرحبا به في مؤتمر طهران: “نرحب بالعضو الجديد في اسرتنا الديمقراطية”.
واخيرا فثمة دروس وعبر سياسية وتاريخية مهمة ينبغي استخلاصها من المعركة التي تخوضها روسيا اعلاميا على مختلف الاصعدة الرسمية والنخبوية والتاريخية الاكاديمية دفاعا عن تاريخها الوطني الحديث، وعن ثوابت هويتها الوطنية، وعن ارثها الحضاري ضد محاولات تشويه ومسخ كل هذين التاريخ والارث بغرض تقزيمها ومنع استعادة هيبتها الدولية ونهوضها من جديد، فعلى صعيدنا العربي مازلنا نواجه منذ افول المشروع القومي بعد هزيمة 67 المحاولات نفسها التي ما انفكت تتصاعد للتشكيك والطعن في كل تاريخ وارث المنجزات الوطنية المتحققة في عصر المد العربي القومي، على نحو ما جرى ويجري في مصر من محاولات مسمومة لزعزعة ثقة الاجيال الشابة المتعاقبة بمنجزات الحقبة الناصرية مستغلة في ذلك باسم نقد الشمولية ما وقعت فيه من اخطاء، كأن التجربة لم تعرف سوى السلبيات والاخطاء، وعلى نحو ما جرى ويجري في بلدان عربية عديدة من محاولات مغرضة تقوم بها أنظمة وقوى صاعدة من الاسلام السياسي لطمس أو تشويه تاريخ ومنجزات الحركات الوطنية وتضحياتها الهائلة في تلك البلدان قبل استقلالها وبعده واعتبارها التاريخ المعاصر لم يبدأ إلا بها.

صحيفة اخبار الخليج
12 سبتمبر 2009